في مشهد يعيد إلى الأذهان أسوأ فصول القمع الأمني في تاريخ تونس، فجر المحامي البارز وعضو جبهة الخلاص الوطني، سمير ديلو، قنبلة سياسية بإعلانه عن "إبعاد جماعي" لمعتقلي الرأي في البلاد، ضمن ما وصفه خريطة تنكيل مدروسة" يديرها قصر قرطاج مباشرة.

الخطوة المفاجئة التي نفذتها السلطات بين 29 و30 مايو 2025، تمثلت في نقل عدد من أبرز المتهمين في ما يعرف إعلاميًا بـ"قضية التآمر على أمن الدولة" إلى سجون نائية بعيدة جغرافيًا عن العاصمة، في توقيت وصفه ديلو بـ"الحاسم"، إذ تزامن مع اقتراب جلسات قضائية بالغة الأهمية.

ما جرى لم يكن، بحسب الحقوقيين، مجرد تحرك إداري روتيني، بل خطوة سياسية محضة تهدف إلى عزل المعتقلين عن محيطهم القانوني والاجتماعي، وحرمانهم من أبسط حقوقهم القانونية والإنسانية، في مشهد يعبّر عن تحول السجون إلى أدوات مباشرة لإدارة الحياة السياسية، لا مؤسسات لتطبيق القانون.

 

السجون تتحوّل إلى خرائط عقاب سياسي

وفقاً لما كشفه ديلو في منشور على حسابه بفيسبوك، فقد تم توزيع عدد من المعتقلين السياسيين على سجون متفرقة خارج العاصمة:

غازي الشواشي إلى سجن الناظور

عصام الشابي والصحبي عتيق إلى برج الرومي

رضا بلحاج إلى سليانة

كمال البدوي إلى السرس

حطاب سلامة إلى بلاريجيا

جميع هذه المؤسسات تبعد بين 100 إلى 180 كيلومترًا عن العاصمة تونس، ما يعني مشقة كبيرة في التنقل، سواء للعائلات أو للمحامين المكلفين بمتابعة ملفات شديدة التعقيد والحساسية.

ديلو وصف هذا التوزيع الجغرافي القسري بأنه "تكتيك خبيث" يهدف إلى إنهاك فرق الدفاع، وتشتيت الجهود القانونية، وخلق عزلة قصوى للمعتقلين، بما يُضعف معنوياتهم ويعمّق معاناتهم النفسية.

الأخطر، كما يضيف، أن هذه الإجراءات طُبقت من دون إعلام مسبق، في مخالفة صريحة للفصل 14 من قانون السجون التونسي، الذي يوجب إبلاغ المحامين والعائلات عن أي تنقل يخص الموقوفين.

 

انتهاك "حق البراءة": المعاملة الانتقامية تسبق الأحكام

المفارقة الكبرى أن هؤلاء المعتقلين لم تصدر بحقهم أحكام قضائية نهائية، ما يعني أنهم قانونيًا في وضع "البراءة الأصلية"، أي لا تزال براءتهم مفترضة حتى تثبت إدانتهم.

لكن الإجراءات التعسفية الأخيرة تعكس، بحسب ديلو، "منطق العقاب المسبق"، الذي لا يكتفي بحرمان المتهم من الحرية بل يسعى إلى إذلاله وعزله وتدمير شبكته الاجتماعية والمهنية قبل صدور أي حكم قضائي.

هذا الانحراف في منطق العدالة يمثّل ضربة مباشرة لاستقلال القضاء، ويكشف عن سلطة تنفيذية باتت تستخدم النيابة والسجون كأدوات لتصفية الخصوم وتفريغ الساحة من أي صوت معارض.

 

من “التآمر” إلى “انستالينغو”: رقعة القمع تتسع

لم تقتصر الإجراءات على معتقلي "قضية التآمر"، بل شملت أسماء أخرى ضمن ملفات مثل "انستالينغو"، التي تضم إعلاميين ومحامين ونشطاء مجتمع مدني. ورغم الطابع المدني والسلمي لنشاط هؤلاء، إلا أنهم وُوجهوا بتهم تتعلق بالأمن القومي في ظل غياب أدلة واضحة.

ما يجمع هذه القضايا المتفرقة هو هدف واحد: تجريم المعارضة وتطبيع الاستبداد. فكل من يكتب، ينتقد، أو يرفض توجهات الرئيس، يجد نفسه عرضة للملاحقة والسجن.

ديلو أكد أن توحيد الأدوات الأمنية والقضائية ضد معارضين من خلفيات مختلفة، يدل على وجود "استراتيجية شاملة لتصفية الحياة السياسية"، وتحويل تونس إلى ساحة صامتة لا يُسمع فيها سوى صوت الحاكم.

 

ردود دولية غاضبة.. وسلطة تتجاهل

مع تصاعد هذه الانتهاكات، تتكثف الإدانات الدولية، من منظمات كـالعفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، ومراسلون بلا حدود، والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، التي اعتبرت ما يجري "نمطًا ممنهجًا من القمع السياسي وتوظيف القضاء ضد المعارضين".

لكن الرد الرسمي التونسي لا يزال على حاله: نفي شامل لأي طابع سياسي للقضايا، واتهام للمنتقدين بـ"تشويه الدولة والتآمر عليها".

الرئيس سعيّد يصر على أن "لا أحد فوق القانون"، ويؤكد أن جميع الملفات تتعلق بشبهات تمس الأمن القومي، وليس لها علاقة بحرية التعبير.

 

من الاستثناء إلى السلطوية: تونس تنحدر نحو الدولة البوليسية

منذ إعلان قيس سعيّد "الإجراءات الاستثنائية" في يوليو 2021، التي جمّد بها البرلمان وأقال الحكومة، بدأت تونس في فقدان مكاسبها الديمقراطية الواحدة تلو الأخرى.

فقد أعاد الرجل صياغة الدستور، وأحكم قبضته على القضاء، وقاد البلاد نحو نموذج سلطوي مركزي تُختزل فيه السلطة في شخص الرئيس.

وفي هذا السياق، لم تعد السجون مراكز احتجاز، بل أدوات خفية لإدارة السياسة، ومعاقبة المخالفين، وتخويف الرأي العام.