أعلنت وزارة النقل المصرية بحكومة الانقلاب في مايو 2025، عن بدء التشغيل التجريبي للمرحلة الأولى من مشروع الأتوبيس الترددي BRT، الذي يمتد بطول 35 كم من أكاديمية الشرطة إلى الطريق الدائري مع طريق الإسكندرية الزراعي، ويشمل 14 محطة، في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها مصر.
وبحسب تصريحات الفريق كامل الوزير، وزير النقل في حكومة السيسي، فإن المشروع يأتي "في إطار خطة الدولة لتقليل الزحام وتوفير وسيلة نقل جماعي حضارية"، غير أن هذا المشروع، رغم مظهره الحداثي، يثير العديد من علامات الاستفهام حول أولوياته، تكلفته، وجدواه في ظل الانهيار الاقتصادي المتسارع الذي يرزح تحته المواطن المصري.
التكلفة والمراحل..
وفقًا لتقارير رسمية وتصريحات وزير النقل، بلغت التكلفة التقديرية لمشروع BRT على الطريق الدائري بأكمله حوالي 40 مليار جنيه مصري، تشمل تكاليف البنية التحتية، محطات الانتظار، والأتوبيسات الكهربائية،
ويُنفذ المشروع على ثلاث مراحل بطول إجمالي 110 كم، ويشمل 48 محطة و4 مراكز شحن، حيث تستهدف المرحلة الأولى تشغيل 14 محطة، والمرحلة الثانية 21 محطة، والثالثة 13 محطة.
صرح الفريق كامل الوزير، وزير النقل بحكومة الانقلاب، أن الأتوبيس الترددي يمثل نقلة حضارية في وسائل النقل الجماعي، ويسهم في تقليل الاعتماد على السيارات الخاصة والحفاظ على البيئة عبر استخدام أتوبيسات كهربائية صديقة للبيئة، تم تصنيعها محلياً في مصر.
كما أعلن أن تذكرة الأتوبيس تتراوح بين 5 إلى 15 جنيهاً حسب المسافة، مع إمكانية تعديل الأسعار لاحقاً
وبحسب تصريحات الوزير، تم الانتهاء من 30% من تنفيذ المشروع، مع بدء تدريب سائقي الأتوبيس الترددي تمهيداً للتشغيل.
وتشمل المرحلة الثانية 21 محطة وتمديد الطريق الدائري وتطويره، مع إنشاء كوبري جديد بطول 2.25 كم، لكن هناك مخاوف من تأخر تنفيذ المشروع بسبب الضغوط الاقتصادية والسياسية
وتشير مصادر حكومية إلى أن التمويل تم عبر مزيج من قروض أجنبية من مؤسسات مالية مثل البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، بالإضافة إلى مخصصات من الموازنة العامة، في بلد تجاوزت ديونه الخارجية حاجز 165 مليار دولار بنهاية 2024، وارتفع فيه معدل التضخم إلى أكثر من 35%.
تبدو الأولوية لمثل هذا المشروع محل جدل واسع بين الخبراء والمواطنين.
تصريحات متناقضة
الفريق كامل الوزير، الذي لا ينتمي لأي خلفية مدنية ويدير وزارة النقل منذ تعيينه في 2019، صرّح أكثر من مرة أن "مشروعات النقل تسير وفق خطة علمية مدروسة"، لكنه في مناسبات أخرى أقر بصعوبات في التمويل والتخطيط.
ففي مؤتمر صحفي عام 2023، اعترف الوزير بأن "بعض مراحل المشروع قد تتأخر بسبب الإجراءات البيروقراطية وتغيرات أسعار الصرف"، وهو ما ألقى بظلاله على قدرة الحكومة في الالتزام بجدول التنفيذ الأصلي.
ويُذكر أن تصريحات الوزير غالبًا ما تتسم بطابع دعائي لا يقدم معلومات تفصيلية، مما يكرس غياب الشفافية والمحاسبة في إدارة المشروعات القومية.
تدمير البنية التحتية
أحد أبرز جوانب النقد الموجه للمشروع هو الطريقة التي أُعيد بها تصميم الطريق الدائري، حيث تم إلغاء الحارات الخاصة بالميكروباصات وإزالة العديد من المداخل والمخارج الحيوية، ما تسبب في أزمة مرورية خانقة في مناطق مثل المنيب والسلام.
كما أُجبر عدد كبير من سائقي الميكروباصات على ترك عملهم أو تغيير خطوطهم، مما تسبب في أزمة نقل حقيقية للطبقات الفقيرة والمتوسطة التي تعتمد على الميكروباصات بشكل أساسي، وبدلاً من تطوير وسائل النقل القائمة أو تحسين خدمات المترو، اختارت الحكومة المضي في مشروع جديد يحتاج إلى بنية تحتية ضخمة لم تكن موجودة أصلاً.
تسويق إعلامي
في ظل سيطرة النظام العسكري على المشهد الإعلامي، تم تصوير مشروع BRT كـ"نقلة حضارية" و"إنجاز عالمي"، دون تقديم أي تقارير محايدة أو دراسات جدوى حقيقية، وعمدت الصحف الرسمية إلى إبراز صور الحافلات الحديثة ومحطات الركوب دون التطرق إلى تأثير المشروع على شبكة النقل بشكل عام أو مخاطره الاقتصادية، كما لم يُفتح أي نقاش مجتمعي حول المشروع أو بدائله، وهو ما يتعارض مع المعايير الدولية للتخطيط الحضري والنقل التي توصي بإشراك المواطنين والمجتمع المدني في صياغة المشروعات الكبرى.
انقلاب يفرغ الدولة من مدنيتها
تعتبر الخبراء مشروع BRT تجسيدًا لسياسات ما بعد الانقلاب العسكري في يوليو 2013، التي تضع الأولوية للمظهر لا للجوهر، وللقروض لا الحلول، فبدلاً من معالجة جذور الأزمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، يمضي نظام السيسي في تنفيذ مشاريع ضخمة يغيب عنها التقييم العلمي والرقابة الشعبية.
وقد وصف المهندس يحيى حسين عبد الهادي، أحد وجوه المعارضة المدنية، هذه المشروعات بأنها "محاولات تجميل مؤقتة لجسد دولة منهك"، مؤكداً أن التنمية لا تُبنى بالحافلات الذكية بل بالعدالة والمساءلة والحريات.
خاتمة..
لا يمكن إنكار حاجة مصر إلى تطوير وسائل النقل العام، ولا الاعتراض على مبدأ الاستثمار في البنية التحتية، لكن السؤال الأهم:
هل تدار هذه المشروعات في إطار ديمقراطي وشفاف يعكس أولويات الناس؟
أم أنها تأتي استجابة لمصالح مقاولين كبار أو لتسويق سياسي يخفي وراءه أزمات متراكمة؟
مشروع BRT على الطريق الدائري قد يبدو واعدًا تقنيًا، لكنه يعكس عمق التناقض بين السلطة الحاكمة والمجتمع، بين خطاب الإنجازات وواقع الانهيار، وفي ظل نظام عسكري لا يقبل النقد أو المحاسبة.