في خطوة صادمة، أصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة قرارا بإغلاق 120 بيتا ومكتبة ثقافية في القرى والمراكز ما أثار موجة غضب بين المثقفين الذين اعتبروا قرار اللواء خالد اللبان «جريمة» في حق الأطفال والشباب، وتهديدا للمساحات الوحيدة المتاحة للفن والمعرفة، متسائلين كيف يدير الثقافة في بلدنا لواء وليس كاتباً أو فناناً أو أديبا ثم كيف سنغضب أو نثور إن أساء الإدارة، كما يفعل الآن؟.
تعاني الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر مشكلات متفاقمة أفقدتها تأثيرها وتواصلها مع الجماهير في المحافظات المختلفة.
وتفجرت أزمة عميقة أخيراً بين وزارة الثقافة التي اتخذت قراراً بمراجعة مواقع قصور الثقافة ومكتباتها وإخلاء عدد كبير منها بدعوى تحديثها وإيجاد بدائل متطورة، والمثقفين الذين انتفضوا اعتراضاً على ما يرونه التفافاً حكومياً لتصفية الهيئة والتخلص من أعبائها المالية.
ولم يكن قرار الهيئة بإغلاق عدد من بيوت الثقافة والمكتبات المؤجرة، والذي بررته بالسعي نحو «تطوير الخدمة الثقافية» والتوسع في المسارح والمكتبات المتنقلة، قرارَا منفردا، بل يأتي ضمن توجه حكومي أوسع تنتهجه لتجهيل الشعب.
المثقفون ينتفضون ضد القرار
في بيان رسمي، عبر عدد من الكتاب والمثقفين والفنانين عبر رفضهم القاطع للقرار، واعتبروه تراجعا صريحا عن دور وزارة الثقافة وتجريفا لمقارها في مختلف أنحاء الجمهورية، في مخالفة واضحة للدستور.
وأشار البيان إلى المادة (48) التي تنص على أن “الثقافة حق لكل مواطن، تكفله الدولة، وتلتزم بدعمه”.
ورفض الموقعون على البيان المبررات الرسمية، سواء المالية أو المتعلقة بالكوادر والتشغيل، مؤكدين وجود مغالطات وتضارب في التصريحات، يعكس غيابا واضحا لوعي الوزارة بطبيعة العمل الثقافي وأهميته.
وطالب البيان بما يلي:
- أولا: تراجع الوزارة بشكل معلن وواضح عن قرار إغلاق أي من المكاتب أو بيوت الثقافة
- ثانيًا: وضع خطة معلنة لتشغيل كافة المكتبات وبيوت الثقافة.
- ثالثًا: إعادة بناء مكتبة “زكي مبارك”، والتوسع في أنشطة المكتبات والبيوت الثقافية القائمة، والعمل على تجديدها.
وأكد البيان أنه في حال عدم الاستجابة، سيتم رفع الأمر إلى البرلمان للمطالبة بسحب الثقة من وزير الثقافة وإعادة الأمور إلى نصابها.
ومن ضمن الموقعين على البيان:
- الشاعر نور سليمان
- الشاعر شريف شجاع
- د. أحمد صلاح كامل، شاعر ومؤلف مسرحي
- الكاتب المسرحي والشاعر أشرف أبو جليل، وكيل وزارة الثقافة الأسبق
- الشاعر أسامة سند
سياسة معاداة الثقافة
يصف القاص والمترجم والمسرحي أحمد الخميسي الاتجاه الوزاري إلى إغلاق قصور ثقافية عدة بالأمر المؤسف، إذ إنها قامت بدور كبير في نشر الوعي على رغم كل مشكلاتها.
ويقول "كنا نتمنى أن نسمع عن افتتاح مزيد من المراكز الثقافية وليس إطفاء نورها على هذا النحو".
ويأتي ذلك، وفق الخميسي، "في سياق سياسة مستمرة تعادي الثقافة وتهدر دورها وتقلص أنشطتها، وتزامناً مع هدم مدافن كبار علماء مصر وأدبائها، كمدفني أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، وهدم مسارح ودور عرض تاريخية".
ويرى الشاعر شوكت المصري، أستاذ مساعد النقد الأدبي الحديث بأكاديمية الفنون، أنه لا توجد بدائل ثقافية مطورة وفاعلة كما تزعم وزارة الثقافة، لأن المشروعات أو الاستثمارات الثقافية المفترض أن تقوم بها الوزارة غير مطروحة أصلاً بصورة فاعلة، فالوزارة عاجزة عن تقديم الخدمة وعن تقديم الاستثمار.
والحل من وجهة نظر شوكت المصري توقف الوزارة عن التفريط في مواقع قصور الثقافة المختلفة، ووضع خطط جديدة لتشغيل هذه المواقع بكوادر متخصصة بالاعتماد على التطور الرقمي، واستحداث أنشطة جاذبة للشباب والناشئة والأطفال، وتشغيل عاملين مدربين إدارياً وموهوبين في الفنون والآداب المتنوعة.
“سياسات غبية” تضر بالثقافة
يرى د. أحمد صلاح كامل، شاعر ومؤلف مسرحي، أن القرار يتناقض مع المبادرات الوطنية الكبرى: “مبادرتا (بناء الإنسان) و(حياة كريمة) تسعيان للنهوض بالمجتمع.
والدولة تحرص على امتلاك أدوات القوة الناعمة، وعلى رأسها الثقافة. فكيف تتماشى هذه الأهداف مع سياسات غبية، كإغلاق 39 موقعا ثقافيا في إقليم غرب ووسط الدلتا؟ في كل موقع منها مكتبة عامة، ونشاط أدبي وثقافي يحارب التطرف، فهل يدرك الوزير مغبة هذا القرار؟”.
ويضيف: “حتى لو كان التبرير تقليص الإنفاق، فإيجارات هذه المواقع لا تساوي شيئا مقارنة بمصاريف ديوان الوزارة. فكيف تتحقق العدالة الثقافية إذا كانت الوزارة تغلق مواقع هي الوحيدة في مناطق محرومة؟! نحن نسلم الأرض طواعية للفكر المتطرف، وحينها سندرك متأخرين أننا وفرنا “الملاليم” وخسرنا الوطن”.
مافيا وفساد
أما الشاعر وكاتب السيناريو صادق شرشر فيتفق مع وزارة الثقافة في إعادة النظر لبيوت الثقافة لأنها "غير مفيدة وغير مؤثرة، وهناك مافيا تستفيد منها، وتديرها بالمجاملات دون تقديم وجبة ثقافية حقيقية للجمهور.
وهؤلاء الفاسدون يجب طردهم وليس ترويضهم، وبهذه الموازنة الضخمة يمكن إنشاء مشروع نشر كبير مثلاً يستفيد منه أهالي المنطقة الواقعة في محيط بيت الثقافة الذي يتم إغلاقه".
على أن صادق شرشر يعارض غلق المكتبات قائلاً "هذا جنون، والأنسب إنشاء مكتبة بدل بيت الثقافة الذي يشبه التكية، وبدل المؤتمرات الفاشلة، إذ يجب دعم البدائل المتطورة ونشر الكتب الورقية والإلكترونية".
وترى الكاتبة والمترجمة هناء نصير أن استمالة الناشئة إلى روافد ثقافية ضرورة في ظل المتاح على الأرض من تيارات دينية بعضها متشدد. وتكمن المشكلة في رؤية الجهاز الإداري للدولة للثقافة كمكلمة غير مفيدة، وأنها أول جهة يمكن أن تخضع للتقشف الحكومي.
والحل لتردي أداء بعض قصور الثقافة لا يكون بالإغلاق، ولكن بالإصلاح. وإصلاح الأمر، وفق هناء نصير، يبدأ بتغيير رؤية إدارة الدولة، والتخلي عن الرغبة في جني الأرباح من كل شيء، والاقتناع بأن الاستثمار في العلم والثقافة نافع على المدى الأبعد.
تحرك قضائي
أعلن الكاتب المسرحي والشاعر أشرف أبو جليل، وكيل وزارة الثقافة الأسبق، عن استعداده تقديم مذكرة طعن أمام المحكمة الإدارية ضد القرار.
وقال في تصريح : “أعمل حاليا بالتعاون مع محام متخصص على تقديم الطعن. مستندا إلى التمييز غير الدستوري الذي يمارسه القرار، والذي يحرم أطفال القرى من حقهم في الثقافة. بل تستثنى قصور المدن”.
وحول حيثيات الطعن، قال: “القرار يخالف الدستور الذي يساوي بين المواطنين في الخدمات. فبينما تحافظ المدن على قصورها، تغلق المكتبات وبيوت الثقافة الصغيرة في القرى.
كما يتناقض القرار مع قانون إنشاء الهيئة العامة لقصور الثقافة، التي من أهم أهدافها نشر الوعي والثقافة في ربوع المحافظة”.
ترشيد أعمى للإنفاق
أسامة سند، شاعر وعضو نادي أدب الفيوم، اعتبر قرار إغلاق المواقع الثقافية المؤجرة “ترشيدا أعمى للإنفاق” في قطاع يعاني أصلا من ضعف التمويل.
قال: “ميزانية وزارة الثقافة لا ترتقي إلى المستوى المأمول، ولا حتى إلى نصفه. لسنا بحاجة إلى ترشيد الإنفاق بشكل جائر على حقوق الموهوبين والمبدعين”.
وأضاف: “نحن بحاجة إلى المزيد من المواقع الثقافية، لا إلى تقليصها. وإذا كانت الهيئة تبرر قرارها بأن بعض المواقع غير نشطة، فإن ذلك يعني فشلها في تنشيطها وجذب الجمهور إليها. بدلا من غلقها، كان من الأجدر البحث في أسباب ضعف النشاط والعمل على تطويره”.