يواصل آلاف الأطباء مغادرة البلاد بحثًا عن فرص عمل أفضل في الخارج، وسط أوضاع مهنية ومعيشية تزداد قسوة.
وكشف تقرير حديث صادر عن مركز حلول بديلة للسياسات العامة التابع للجامعة الأميركية في القاهرة، أن 76% من الأطباء المؤهلين في مصر اختاروا العمل بالخارج، مشيرًا إلى أن 60% منهم اتخذوا قرارهم بدافع تدني الأجور، فيما يبحث آخرون عن بيئة مهنية أكثر احترامًا وأمانًا.
لم تعد وجهات الهجرة الطبية تقتصر على دول الخليج كما كان الحال سابقًا، بل اتجه جيل جديد من الأطباء وخبراء التخصصات الدقيقة إلى هجرة طويلة الأمد نحو الغرب، وخاصة إلى بريطانيا وكندا والولايات المتحدة، حيث تتوافر بيئات عمل أكثر جذبًا على المستويين المهني والاقتصادي.
وتُظهر أرقام نقابة الأطباء حجم النزيف المتواصل في الكوادر الطبية، إذ كشفت النقابة في بيان حديث أن نحو 7 آلاف طبيب غادروا مصر في عام 2023 فقط، ضمن سلسلة ممتدة من موجات الهجرة بدأت بالتصاعد منذ سنوات، وبلغت ذروتها في عام 2021 بمغادرة أكثر من 16 ألف طبيب، بعضهم لم يعد، بعدما استقر في مستشفيات وجامعات في أوروبا وأميركا الشمالية.
أزمة وطنية بصمت
ما يفاقم الأزمة هو أن هذه الهجرة الجماعية تأتي في وقت تعاني فيه مصر من نقص حاد في عدد الأطباء، وفقًا لمعايير منظمة الصحة العالمية.
ووفقًا لتقديرات المنظمة، يبلغ متوسط تغطية الطبيب للمواطنين في مصر طبيبًا واحدًا لكل 1160 شخصًا، مقارنة بمتوسط عالمي يبلغ طبيبًا لكل 500 مواطن، مما يهدد بكارثة صحية حال استمرار هذا الاستنزاف.
ولا تقتصر الهجرة على الأطباء حديثي التخرج، بل امتدت إلى الطواقم التمريضية والفنية والتخصصات النادرة، مثل أطباء الطوارئ والعناية المركزة والتخدير وصيانة الأجهزة الطبية الدقيقة، وهي تخصصات تُعد العمود الفقري لأي منظومة صحية فعالة.
ويصف خبراء هذا الواقع بأنه "تجريف متكامل للمنظومة الطبية"، مؤكدين أنه لا يمثل فقط خسارة للمؤسسات الصحية، بل إهدارًا ضخمًا للمال العام وثروات الأسر المصرية التي أنفقت لسنوات على تعليم أبنائها ليخدموا في النهاية أنظمة صحية أجنبية.
بيئة عمل "طاردة"
ويكشف تقرير مركز "حلول بديلة" عن جانب صادم من الواقع اليومي للأطباء داخل مصر، إذ يبلغ راتب طبيب الامتياز في المستشفيات العامة أقل من 7 آلاف جنيه شهريًا، بينما تُقدّر تكلفة الحد الأدنى للأجر المعيشي -وفق حسابات خبراء الاقتصاد- بنحو 12,448 جنيهًا شهريًا لضمان حياة كريمة.
إضافة إلى ذلك، يعاني الأطباء من "بيئة عمل عدائية ومحبطة"، بحسب وصف التقرير، وسط تضييق إداري ونقص مستلزمات طبية وأعباء نفسية مضاعفة، خاصة في المستشفيات الحكومية.
وتُظهر دراسة ميدانية أُجريت عام 2023 أن أكثر من 70% من الأطباء تعرضوا لشكل من أشكال العنف داخل مكان عملهم، سواء من المرضى أو ذويهم، ما يضيف إلى معاناتهم شعورًا مستمرًا بعدم الأمان والإهانة.