في خطوة جديدة تعكس استمرار نهج التوسع التشريعي دون معالجة حقيقية لجذور الأزمات، وافق برلمان الانقلاب المصري مبدئيًا على مشروع قانون لتنظيم مرفق مياه الشرب والصرف الصحي، وسط تساؤلات عن قدرة الحكومة، بقيادة عبد الفتاح السيسي، على تحقيق تطور حقيقي في هذا القطاع الحيوي، في ظل الفشل الاقتصادي العام الذي تعاني منه البلاد منذ الانقلاب العسكري في 3 يوليو 2013.
مشروع قانون في سياق الانهيار
يُروج لمشروع القانون الجديد كإصلاح تنظيمي لتحسين جودة المياه وتطوير خدمات الصرف الصحي، إلا أن كثيرين يرون أنه يأتي في وقت تتراجع فيه الدولة عن مسؤولياتها الأساسية، حيث تُحمّل المواطن مزيدًا من الأعباء المالية، دون أي تحسن ملموس في جودة الخدمات، وتشير بعض المسودات إلى احتمالية خصخصة بعض أجزاء هذا المرفق، ما يثير القلق بشأن مستقبل العدالة الاجتماعية في توزيع الخدمات الحيوية.
أهداف القانون.. إدارة المياه ومكافحة التلوث
يسعى القانون إلى وضع إطار منظم لإدارة الموارد المائية النادرة في مصر، ويشمل تنظيم استخدام مياه الري، وتحديد محاصيل معينة لا يسمح بزراعتها بسبب استهلاكها الكبير للمياه، بالإضافة إلى فرض عقوبات على التلوث وإهدار المياه، كما يتضمن القانون غرامات لمن يقوم بقطع الأشجار التي تحمي المسطحات المائية، ورغم هذه الأهداف، يبقى السؤال حول مدى قدرة الحكومة على تنفيذ هذه الإجراءات بفعالية في ظل الفشل الإداري والاقتصادي.
التأثير الاجتماعي: عبء على الفلاحين والمواطنين
أحد الجوانب المثيرة للجدل في القانون هو فرض رسوم على استخدام مياه الري، حيث كان القانون يقترح في البداية رسومًا تصل إلى 636 دولارًا لترخيص مضخات المياه لمدة خمس سنوات، ثم تم تخفيضها إلى حوالي 79.5 دولار بعد نقاشات برلمانية، أما بالنسبة للعديد من الفلاحين الصغار الذين يعانون من الأوضاع الاقتصادية الصعبة، تمثل هذه الرسوم عبئًا إضافيًا قد يزيد من معدلات الفقر ويهدد الأمن الغذائي.
أزمة مياه الشرب المتفاقمة
رغم مشاريع القوانين المتكررة، تظل أزمة مياه الشرب في مصر قائمة، حيث تشير تقارير رسمية إلى أن ما يزيد على 20% من قرى مصر لا تتمتع بشبكة صرف صحي فعالة، فيما تعاني بعض المناطق من اختلاط مياه الشرب بالصرف الصحي، كما حدث في محافظة الجيزة في عام 2023، ما تسبب في انتشار الأمراض المعدية، هذا الواقع يعكس أن المشكلة ليست تشريعية فقط، بل هي بالأساس إدارية وتمويلية مرتبطة بسوء إدارة الموارد.
كما يرى مراقبون أن القانون الجديد لتنظيم المرافق قد يكون مدخلاً لفرض رسوم إضافية على المواطنين، تحت ذريعة تحسين الخدمات. فقد شهدت السنوات الماضية زيادات متتالية في فواتير المياه والكهرباء والغاز، في ظل رفع الدعم الحكومي، وبينما كانت الدولة تدعم المواطن بـ80% من تكلفة المياه عام 2014، لم يتبق من هذا الدعم اليوم سوى أقل من 10%، حسب بيانات وزارة المالية.
التخصيص يهدد الأمن المائي
يثير مشروع القانون الجديد مخاوف من فتح الباب أمام خصخصة خدمات المياه تدريجيًا، وهو ما حدث في بعض دول العالم وأدى إلى حرمان الفقراء من حقهم في المياه النظيفة، وتجارب خصخصة المرافق في مصر سابقًا مثل شركات الاتصالات والطيران أظهرت أن الخدمة لا تتحسن بل تصبح أكثر تكلفة، وتُدار بعقلية ربحية بحتة.
البرلمان بلا معارضة حقيقية
موافقة البرلمان المبدأية على القانون الجديد تأتي ضمن سياق معروف؛ إذ أن البرلمان المصري، الذي تشكل بعد سلسلة من الانتخابات التي افتقرت للنزاهة، لا يُمثل طيفًا سياسيًا حقيقيًا، وتم إقصاء معظم رموز المعارضة من المشهد السياسي، سواء عبر القمع الأمني أو الإقصاء القضائي، مما حول المجلس إلى جهة تصادق على القرارات الحكومية دون مناقشة جوهرية أو مساءلة حقيقية.
مشاريع استعراضية
يتساءل الكثيرون عن أولويات الدولة في إنفاقها، في ظل تخصيص عشرات المليارات من الجنيهات لمشاريع ذات طابع استعراضي، في وقت تعاني فيه المدارس والمستشفيات ومرافق المياه من تدهور حاد، فالعاصمة الإدارية الجديدة وحدها استنزفت أكثر من 60 مليار دولار حتى عام 2024، بينما يعيش 30 مليون مصري تحت خط الفقر بحسب تقديرات البنك الدولي لعام 2023.
الديون تنهش الاقتصاد
منذ تولي السيسي الحكم فعليًا في 2014، ارتفعت ديون مصر الخارجية بشكل غير مسبوق. ففي نهاية عام 2013، كانت الديون الخارجية نحو 43 مليار دولار، أما في عام 2024 فقد تجاوزت 165 مليار دولار، بحسب بيانات البنك المركزي المصري.
انخفضت قيمة الجنيه المصري بأكثر من 70% منذ 2016، بعد قرار "التعويم" الذي جاء ضمن شروط صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار، هذا الانخفاض المستمر في قيمة العملة رفع الأسعار بشكل جنوني، خاصة أسعار الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه، ما دفع الملايين من الأسر المصرية إلى حافة الفقر، في مارس 2024، بلغ معدل التضخم السنوي نحو 35%، وفق الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
الخلاصة..
تتزايد القوانين، وتُسن التشريعات لكن تتراجع الخدمات، هذه المفارقة تلخص أزمة مصر الاقتصادية والسياسية في عهد السيسي، ومشروع قانون تنظيم مرفق مياه الشرب ليس سوى حلقة جديدة في سلسلة تشريعات تفتقر للشفافية والرقابة الحقيقية، ما تحتاجه مصر ليس قانونًا جديدًا، بل إدارة جديدة تعيد للدولة أولوياتها وللشعب كرامته.