منذ عام 2016، حين بدأ الحديث رسميًا عن تقنين مخالفات البناء في مصر، تكرر طرح وعود حكومية بحل أزمة عمرانية متفاقمة، خصوصًا بعد إصدار القانون رقم 17 لسنة 2019، غير أن هذه الوعود لم تتحقق، وتبين مع الوقت أن آلاف القرى والمدن لا تزال عالقة في حالة من "اللاحسم"، فيما يعزف المواطنون عن استكمال إجراءات التصالح بسبب الروتين الإداري والرسوم المرتفعة.

 

قانون بلا أثر.. وطلبات مهملة

أعلنت الحكومة في أغسطس 2020 فتح باب التصالح، وتلقى المسؤولون أكثر من 2.8 مليون طلب خلال أقل من عام، ورغم ذلك، ظل معظم هذه الطلبات حبيس الأدراج، إذ لم يُبت فيها حتى منتصف 2023، بحسب لجنة الإدارة المحلية بمجلس النواب، ويعزو مواطنون ومراقبون هذا التعثر إلى غياب الشفافية وسوء الإدارة، ما عمّق فجوة الثقة بين الحكومة والمواطن.

 

العبء المالي يُفقد المواطنين الأمل

رغم تعهدات الحكومة بتسهيل الدفع وتقسيط الرسوم، فقد وصلت قيمة التصالح في بعض المناطق إلى أرقام تفوق قدرة المواطن العادي، خاصة في الريف والمناطق الشعبية، ففي محافظات البحيرة والمنيا والفيوم، تراوحت الرسوم بين 200 و800 جنيه للمتر، ما يعني أن بعض العقارات تتطلب مئات الآلاف من الجنيهات لتقنينها، في حين لا يتجاوز متوسط دخل الأسرة 3000 جنيه شهريًا، هذا الواقع أدى إلى انسحاب آلاف المواطنين من إتمام الإجراءات.

 

عزوف شعبي متزايد..

بين منتصف 2022 وبداية 2025، لم تتجاوز نسبة من أتموا التصالح 20% من إجمالي الطلبات، بحسب بيانات متضاربة من وزارة التنمية المحلية، فالمواطنون يعتبرون القانون مجرد وسيلة لجمع الأموال، خصوصًا أن تحصيل هذه الرسوم لم يترافق مع تحسين ملموس في البنية التحتية أو الخدمات، والإصرار على الإزالات، رغم تقديم طلبات تصالح، زاد الإحباط العام وأكد شعور الناس بعدم الإنصاف.

 

تناقض في الخطاب الرسمي

تروج الحكومة لقانون التصالح على أنه "فرصة أخيرة"، بينما لا تتورع عن تنفيذ قرارات إزالة لمبان مأهولة، حتى بعد دفع مقدمات التصالح، في يناير 2023، أثار مقطع مصور من الجيزة غضبًا واسعًا، حين أُزيل منزل مكون من أربعة طوابق رغم استيفاء أصحابه الإجراءات ودفع 60 ألف جنيه، هذه التناقضات عمّقت الفوضى ودفعت المواطنين إلى مقاطعة المنظومة تمامًا.

 

الريف يدفع الثمن الأكبر

الريف المصري، الذي يشهد النسبة الأكبر من البناء العشوائي بسبب الإهمال الحكومي، يجد نفسه بين مطرقة الإزالات وسندان الغرامات، في محافظات مثل سوهاج وكفر الشيخ وأسيوط، يواجه السكان أعباء مالية كبيرة، رغم أن 61% من الأسر هناك تعيش تحت خط الفقر، وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (2024)، مع غياب حلول مرنة، يبدو التصالح بعيد المنال عن هؤلاء.

 

أموال بلا مقابل.. أين ذهبت المليارات؟

حتى منتصف 2023، جمعت الدولة أكثر من 20 مليار جنيه من رسوم التصالح، ومع ذلك، لم يُرصد أي تحسن حقيقي في البنية التحتية في المناطق المعنية، فلا الطرق صلحت، ولا شبكات الصرف طُوّرت، ولا المدارس أو المستشفيات حصلت على نصيبها من هذه الأموال، في المقابل، يستمر إنفاق ضخم على مشاريع ضخمة مثل العاصمة الإدارية الجديدة، ما يثير تساؤلات حول أولويات الدولة.

 

المركزية والبيروقراطية تخنق الحلول

من أكبر معوقات التصالح مركزية القرار وتعقيد الإجراءات، بدلاً من تمكين المحليات، تُحال معظم الملفات إلى لجان مركزية في القاهرة، ما يؤدي إلى تعطيل البت في الطلبات لأشهر وربما لسنوات، هذا الوضع فتح الباب أمام سماسرة ومفسدين يعرضون تسريع الإجراءات مقابل رشاوى، ما يضرب ما تبقى من مصداقية في العملية.

 

فشل اقتصادي واسع تُجسده أزمة التصالح

أزمة التصالح لا تنفصل عن الإخفاق الاقتصادي العام تحت حكم عبد الفتاح السيسي، فمنذ الانقلاب في 2013، عجز النظام عن توفير مساكن ميسّرة، أو تطوير الريف، أو تقنين العشوائيات، وفي الوقت نفسه، ارتفع الدين الخارجي ليصل إلى 165 مليار دولار بنهاية 2024، والمواطنون، في ظل هذه السياسات، هم من يتحملون أعباء الفشل، فيما تزداد الفجوة بين الدولة والمجتمع.

 

خاتمة..

يبقى ملف البناء والتصالح في مصر مثالاً واضحاً على الفشل الاقتصادي والإداري للنظام العسكري الحالي، فبدلاً من أن يكون قانون التصالح وسيلة لتنظيم العمران وتحسين الظروف المعيشية، تحول إلى أداة جباية واستغلال، كما يؤكد أن الدولة لا تزال عاجزة عن إدارة الملف العمراني بشكل عادل أو فعال، وبدلاً من أن يكون القانون مدخلًا لتنظيم البناء وتحسين المعيشة، تحوّل إلى أداة جباية تعمق انعدام الثقة، وأن المشكلة الحقيقية في الخلل الهيكلي في إدارة الدولة لأزماتها، مما يدفع المصريين إلى العزوف عن التصالح، ويؤكد أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد لا تزال عميقة ومتجذرة.