في ظل توجه الدولة نحو تعزيز الإنتاج المحلي وتقليل الاعتماد على الاستيراد، تبرز صناعة الأدوية كإحدى الركائز الاستراتيجية التي تراهن عليها الحكومة لتقليص فاتورة العملة الصعبة، إلا أن هذا التوجه يصطدم بعقبة كبرى: غياب التمويل الكافي لتوسيع خطوط الإنتاج وتحديث المصانع.

فعلى الرغم من إطلاق مبادرات رسمية لدعم توطين صناعة الدواء، مثل مبادرة وزارتي المالية والصناعة لتمويل قطاعات محددة بفائدة ميسرة، لا تزال شركات الأدوية تواجه صعوبات جمة في الحصول على التمويل البنكي، خصوصًا التمويل طويل الأجل اللازم لإنشاء مصانع جديدة أو تطوير خطوط إنتاج متقدمة.
 

قطاع دوائي عالي المخاطر بنظر البنوك
   وتصنف البنوك العاملة في السوق المصرية قطاع الصناعات الدوائية على أنه "عالي المخاطر"، لأسباب ترتبط باضطرابات سعر الصرف، وسياسات التسعير الإجباري التي تفرضها الدولة على المنتجات الدوائية، فضلًا عن ضعف العائد التصديري لمعظم الشركات العاملة في المجال.

وبحسب مصدر مسؤول في شركة "المهن الطبية"، التابعة لمجموعة أكديما الحكومية، فإن البنوك باتت متحفظة جدًا في منح التمويلات لشركات لا تملك تدفقات نقدية دولارية، لا سيما تلك غير المعتمدة على التصدير.

وأضاف المصدر أن عمليات التمويل البنكي أصبحت معقدة، وقد تستغرق شهورًا دون نتيجة حاسمة، مما يعوق الشركات عن تلبية احتياجات السوق المحلي، ناهيك عن خطط التوسع أو التوطين.
 

ارتفاع تكلفة الإنتاج.. وضغط الدولار
   التعويم الجديد للجنيه المصري في مارس 2024، فاقم التحديات، إذ أدى إلى ارتفاع تكلفة استيراد المواد الخام الدوائية بشكل كبير. ووفق مصدر في إدارة شركة "إيفا فارما"، فإن هذا الوضع فرض ضغطًا مزدوجًا على الشركات: صعوبة في تدبير النقد الأجنبي، وصعوبة موازية في الحصول على تمويلات تشغيلية.

ويشير المصدر إلى أن القطاع يواجه فجوة تمويلية خطيرة في ظل قروض قصيرة ومتوسطة الأجل لا تتناسب مع طبيعة صناعة تعتمد على أبحاث مطوّلة وتجارب سريرية طويلة الأمد، قد تمتد لعشر سنوات قبل طرح منتج واحد في الأسواق.
 

سوق تصديري محدود
   يعزز من أزمة التمويل البنكي، افتقار معظم شركات الدواء إلى نشاط تصديري مستقر، وهو ما يشير إليه محيي حافظ، رئيس المجلس التصديري للصناعات الطبية، الذي يوضح أن من أصل نحو 180 شركة دواء مصرية، لا تتجاوز الشركات التي تمتلك أنشطة تصديرية فعالة 50 شركة.

الأكثر من ذلك، أن 10 مصانع فقط تستحوذ على نحو 80% من إجمالي صادرات الدواء، التي لم تتخطَّ مليار دولار خلال العام الماضي، وهو رقم متواضع بالنسبة لحجم السوق المحلي والطلب الإقليمي.
 

قصص نجاح محدودة.. والتحدي في الأجل الطويل
   ورغم الصورة القاتمة، شهد القطاع بعض النجاحات في تدبير قروض للتوسع، مثل ما حدث مع "إيبيكو" التي حصلت مؤخرًا على تمويل لبناء مصنعها الثالث، وكذلك "مينا فارم" التي تمكنت من إطلاق توسعات في قطاع أدوية السرطان.
لكن هذه الحالات لا تعكس القاعدة، بحسب مصادر داخل القطاع.

ويؤكد مصدر بشركة "إيبيكو" أن التحدي الرئيسي لا يتمثل في غياب التسهيلات التشغيلية فحسب، بل في غياب التمويل طويل الأجل اللازم لمشروعات البحث والتطوير، والتي تتطلب سنوات طويلة وعائدًا مؤجلًا، ما يجعل البنوك تحجم عن تمويلها، أو تفرض عليها فوائد مرتفعة.
 

دعم حكومي غائب.. واستجابة فاتر
   يرى علي عوف، رئيس شعبة الأدوية باتحاد الغرف التجارية، أن الأزمة الجوهرية تكمن في بطء استجابة الدولة لتعديلات أسعار الدواء بما يواكب تكاليف الإنتاج، فضلًا عن غياب حوافز استثمارية حقيقية.

ويحذر عوف من أن استمرار شح التمويل قد يدفع الدولة إلى العودة للاستيراد في بعض الفئات العلاجية الحساسة، بما يعني مزيدًا من الضغط على احتياطي النقد الأجنبي، وزيادة أزمة الدواء في الأسواق.
 

الأمل في سياسة نقدية ميسرة
   ويعول المصنعون على توجه البنك المركزي لتيسير أسعار الفائدة، بعدما ثبتها على مستويات مرتفعة منذ مارس 2024 للسيطرة على التضخم، إلا أن الفائدة لا تزال مرتفعة بما لا يشجع على الاقتراض طويل الأجل.

ويطالب القطاع بتدخل مباشر من الحكومة لدعم الفائدة الموجهة لصناعة الدواء، وتقديم ضمانات ائتمانية تقلل من المخاطر البنكية، وتفتح الباب أمام التمويلات اللازمة للتصنيع والتوطين.