في الوقت الذي تشهد فيه مصر واحدة من أسوأ أزماتها الاقتصادية في العقود الأخيرة، بدأت تداعيات الفشل المالي تضرب القطاعات التي طالما روج لها النظام المصري كأذرعٍ للقوة الناعمة والسيطرة الإعلامية، وأبرزها الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية.

هذه الشركة، التي تمثل واجهة الإعلام الرسمي غير المعلنة، تواجه اليوم أزمة مالية حادة أدت إلى فصل عشرات الإعلاميين والموظفين، ووقف خدمات وبرامج رئيسية، في مؤشر واضح على الانهيار الاقتصادي الذي بات يهدد حتى أدوات الدعاية السياسية للنظام.

تأسست "المتحدة" عام 2017 تحت غطاء دمج عدد من الشركات الإعلامية الخاصة، لكنها خضعت تدريجياً لسيطرة أجهزة الدولة، وخاصة جهاز المخابرات العامة، وفق ما أكدته تقارير متعددة من منظمات إعلامية دولية وصحف مثل "نيويورك تايمز" و"الغارديان"، وقد استخدمت الشركة لتوجيه الرأي العام، ومحو الأصوات المعارضة، والسيطرة على سوق الإعلام، في نهج أحادي الجانب يخدم السلطة دون اعتبار للتنوع أو المهنية الصحفية.

غير أن هذا المشروع الإعلامي الممول من المال العام، يترنح اليوم تحت وطأة العجز المالي، فخلال مايو 2024، تداولت وسائل إعلام محلية وعربية أنباء مؤكدة عن فصل عشرات العاملين في قنوات "ON" و"DMC" و"الحياة"، المملوكة للمتحدة، كما تم تقليص عدد البرامج الحوارية، وتوقفت بعض الخدمات الإخبارية الرقمية التي أُطلقت حديثًا.

يُذكر أن هذه الإجراءات التقشفية تأتي بعد خسائر مالية ضخمة لحقت بالشركة خلال العامين الماضيين، رغم الدعم الحكومي غير المحدود، وتشير تقديرات إلى أن الشركة المتحدة تكبدت خسائر تجاوزت 6 مليارات جنيه مصري في الفترة بين 2021 و2023، وهو رقم يعكس سوء الإدارة وانعدام الجدوى الاقتصادية لمشروع إعلامي مؤدلج وغير ربحي.

تزامنت أزمة "المتحدة" مع تفاقم الوضع الاقتصادي العام في مصر، حيث بلغ التضخم في يناير 2024 مستويات غير مسبوقة بنسبة تجاوزت 35%، في حين تجاوز الدين الخارجي 165 مليار دولار بنهاية العام نفسه، ومع تراجع قيمة الجنيه المصري إلى أكثر من 60 جنيهًا مقابل الدولار في السوق الموازية، أصبح تمويل الكيانات غير الإنتاجية مثل "المتحدة" عبئًا حتى على نظام يرفض الاعتراف بالفشل.

القرارات التي اتخذتها إدارة "المتحدة" لم تكن مجرد خطوات إدارية، بل عكست حالة انهيار حقيقي، فقد أُبلغ عدد من الإعلاميين البارزين بإنهاء عقودهم دون سابق إنذار، كما تم إغلاق مكاتب إنتاج فرعية وتسريح كوادر فنية وتقنية.

ومن أبرز الأسماء التي أُطيح بها إعلاميون كانوا من أبرز وجوه النظام في الإعلام، وهو ما يشير إلى أن الأزمة لم تعد تفرق بين الموالين والمعارضين.

ويرى محللون اقتصاديون أن ما حدث مع "المتحدة" ليس سوى عينة مصغرة من انهيار اقتصادي شامل سببه السياسات الكارثية التي انتهجها نظام السيسي منذ انقلابه العسكري في 3 يوليو 2013 ما أدى إلى استنزاف الموارد وانهيار الجنيه المصري.

وفي هذا السياق، علّق الباحث الاقتصادي عبد الخالق فاروق، في لقاء تلفزيوني سابق، بأن "المتحدة" تمثل صورة مصغرة لفلسفة الحكم في مصر: تضخيم أدوات السيطرة، وإنفاق غير عقلاني، وغياب تام للمحاسبة، ونحن أمام نظام يعتقد أن الإعلام يمكن أن يغطي على الفشل الاقتصادي، لكنه الآن لا يستطيع حتى تمويل هذا الإعلام".

من جهة أخرى، يربط مراقبون بين الأزمة الحالية ومحاولات لتقليص النفقات بعد الضغط المتزايد من مؤسسات دولية كصندوق النقد الدولي، الذي اشترط في قرضه الأخير لمصر تنفيذ إصلاحات حقيقية، من بينها وقف دعم المؤسسات الخاسرة وغير الشفافة، وقد تكون الإجراءات التقشفية في "المتحدة" جزءاً من محاولات تجميل الصورة أمام المقرضين، وليس تغييراً حقيقياً في النهج.

 

ملامح انهيار المنظومة الإعلامية في مصر

  • الإقالات الجماعية: بعد الانقلاب، تعرض عدد كبير من الإعلاميين للفصل والإيقاف، سواء بسبب مواقفهم المعارضة أو حتى بسبب انتقاداتهم المحدودة للنظام، من أبرز الحالات إقالة الإعلامية رانيا بدوي بسبب تعليقها على وزيرة الاستثمار داليا خورشيد، وكذلك إيقاف الإعلامي خيري رمضان الذي انتقد ظروف ضباط الشرطة، إضافة إلى منع توفيق عكاشة من العمل وإغلاق قناته "الفراعين" رغم دوره في دعم الانقلاب.
  • إغلاق البرامج والقنوات: قامت السلطات بإغلاق العديد من القنوات التي كانت تعبر عن وجهات نظر مختلفة أو تنتقد النظام، كما أُجبر عدد من الصحف على تغيير عناوينها وحذف موضوعات لم ترق للسلطة، هذه الإجراءات شملت قنوات فضائية وصحفاً ومواقع إلكترونية، مما أدى إلى تراجع كبير في التنوع الإعلامي وفرض "إعلام الصوت الواحد".
  • الفساد الإداري والمالي: كشف تسريب لمكالمة بين عباس كامل مدير مكتب السيسي السابق وأحمد علي المتحدث السابق باسم القوات المسلحة عن وجود توجيهات مباشرة للإعلاميين من داخل المؤسسة العسكرية، تشمل تعليمات بكيفية تناول الأخبار وتوجيه الخطاب الإعلامي، وهو ما يشير إلى تدخلات غير شفافة وتحكم مركزي في الإعلام، يفتح الباب أمام الفساد الإداري والمالي في إدارة المؤسسات الإعلامية.
  • تأميم الإعلام الخاص: بعد الانقلاب، شهدت مصر تأميماً تدريجياً لوسائل الإعلام الخاصة، حيث وضعت تحت سيطرة الدولة بشكل مباشر من خلال هيئات حكومية وشركات تابعة للجيش، مثل الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، مما أدى إلى تقليص استقلالية الإعلام وزيادة سيطرة النظام على المحتوى الإعلامي.
  • تأثير الأزمة الاقتصادية: الأزمة المالية التي تضرب مصر انعكست على المؤسسات الإعلامية، حيث اضطرت العديد منها إلى إيقاف برامج وخدمات بسبب نقص التمويل، مع إقالات للموظفين والإعلاميين في محاولة لتقليص النفقات، وهو ما يعكس هشاشة القطاع الإعلامي تحت ضغط الأزمة الاقتصادية وفشل السياسات الاقتصادية للنظام.

الخلاصة..

البيانات الواردة توضح أن الإقالات وإغلاق البرامج في الإعلام المصري ليست مجرد إجراءات عشوائية، بل جزء من سياسة ممنهجة للسيطرة على الإعلام، مرتبطة بفشل النظام في إدارة الاقتصاد والسياسة، ما أدى إلى أزمات مالية وإدارية حادة في المؤسسات الإعلامية، كما أن الأزمة التي تضرب الشركة المتحدة ليست فقط مالية أو إدارية، بل هي دليل إضافي على إفلاس مشروع سياسي يحاول شراء الشرعية بالدعاية، بينما ينهار اقتصاد البلد تحت وطأة الفساد وسوء التخطيط، ومثلما فشلت "المتحدة" في أن تصنع إعلامًا مقنعًا، يفشل السيسي اليوم في أن يصنع اقتصادًا قادرًا على الصمود أو تحقيق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية.