من رغيف الفينو إلى سندويتش الفول، ومن عربة الكشري إلى طاولة الغداء المنزلية، امتدت نيران الأسعار لتحرق ما تبقى من وجبات المصريين الشعبية، وبينما كانت تلك الأطعمة تمثل خط الأمان الغذائي للفقراء والطبقة العاملة، فإن سياسات حكومة عبدالفتاح السيسي المتسارعة في رفع الدعم عن الوقود والكهرباء والخدمات، دفعت حتى “ساندويتش المدرسة” خارج حدود القدرة الشرائية لملايين الأسر. ورغم الطقس الربيعي وموسم الحصاد الغزير، شهدت الأسواق زيادات متواصلة في أسعار المخبوزات والخضروات والزيوت والبقوليات، وسط تجاهل رسمي للأثر الاجتماعي المروع لهذا الانفلات. وقود الغلاء: كيف تسببت سياسات الحكومة في خنق موائد البسطاء؟ في 11 أبريل الجاري، أطلقت الحكومة واحدة من أكبر موجات زيادة أسعار المحروقات منذ سنوات، رفعت فيها سعر أنبوبة البوتاجاز التجاري من 300 إلى 400 جنيه، والمنزلي من 150 إلى 200 جنيه، وتجاوزت الزيادة 33% في غاز الطهي، بينما ارتفع سعر السولار، شريان النقل الحيوي، ما أدى إلى ارتفاع فوري في أسعار خدمات المواصلات بنسبة 20%، ووصلت إلى 50% في "التوك توك". وأدى هذا الانفجار السعري إلى قفزات دراماتيكية في أسعار المواد الغذائية الجاهزة والمخبوزات والمكونات الأساسية، ما أعاد تشكيل النظام الغذائي القائم في البيوت الشعبية، وأعاد تعريف "الطعام الرخيص". من الخبز إلى الزيت... معادلة الغلاء تتسارع مصطفى خيري، صاحب مخبز شعبي، يؤكد أن تكلفة الإنتاج خرجت عن السيطرة بعد ارتفاع أسعار الوقود والنقل والزيوت، موضحًا أنه اضطر إلى تخفيض أوزان الأرغفة اليومية للموازنة بين التكلفة وسخط الزبائن، "خففنا 10 جرام من كل رغيف بلدي، وأنتجنا رغيفًا بـ2.5 جنيه وزن 50 غرامًا بدلًا من جنيهين"، يقول خيري، قبل أن يضيف: "نحن نأكل الغلاء مثل الزبائن". وفي الوقت ذاته، يتوقع رئيس شعبة المخابز، عبد الله غراب، ارتفاعًا جديدًا قد يصل إلى 25% في أسعار الخبز الحر، نتيجة ارتفاع تكلفة الطاقة والنقل، مؤكدًا أن أسعار السوق سبقت قرارات الحكومة. وجبة الغلابة تختفي من الشارع: الفول والفلافل في مهب الريح محمد، بائع فول شعبي في شارع اللبيني قرب منطقة الأهرامات، يقول إن "الساندويتش" ارتفع من 5 إلى 7 جنيهات فقط ليواكب الزيادات في سعر الفول والغاز والخبز والزيت، لكن المشكلة الأكبر جاءت من الحكومة نفسها: "فرضوا علينا رسوم تسجيل 5 آلاف جنيه في الأحياء، وعداد كهرباء، وضرائب مبالغ فيها، وقريبًا سنُجبر على تطبيق ضريبة القيمة المضافة على كل ساندويتش!". ويحذر محمد من أن هذه الإجراءات تدفع باعة "الشارع" — وهم شريان غذائي رئيسي للفقراء — إلى الإغلاق أو تقليص الكميات والجودة، ويؤكد: "الناس رجعت لعربيات الفول لأنها الأرخص، لكن مش عارفين هنفضل كده لحد إمتى". الطبقات المنهكة: 85% من المصريين يبحثون عن طعام أرخص بحسب تقرير حكومي للمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، فإن 85.4% من المصريين باتوا يبحثون عن بدائل غذائية أرخص، وتراجعت نسب استهلاك اللحوم بنسبة 93%، والفواكه 89%، والحبوب والخضر بنسبة 86%. وهي أرقام صادمة تعكس التحول الكبير في نمط الحياة اليومية. ويشير التقرير إلى صعود مؤشرات الفقر الغذائي، وتزايد نسب القروض العائلية، والاعتماد على مساعدات الأقارب، في ظل تآكل الأجور وتراجع قيمة الجنيه. انفجار اجتماعي يلوح في الأفق: الغلاء يقود إلى الطلاق والسجن تزامنًا مع موجات الغلاء، رصدت الصحف المحلية تصاعدًا لافتًا في حالات الشجار الأسري وطلبات الطلاق بسبب الخلافات على المصروفات اليومية، وتشير تقارير المركز القومي للبحوث إلى ارتفاع معدلات الطلاق المرتبطة بالأوضاع الاقتصادية، مع تنامي ظاهرة السجن بسبب التعثر في سداد قروض البنوك أو القروض العائلية. وتحذر تقارير مراكز بحثية، منها مركز "حلول للسياسات البديلة" بالجامعة الأميركية، من أن استمرار رفع أسعار الوقود في ظل تراجع أسعار النفط عالميًا، يعكس غياب الرؤية الحكومية لحماية الشرائح الضعيفة، ويفتح الباب أمام اضطرابات اجتماعية واسعة النطاق. نواب البرلمان يحتجون: "قرارات بلا مشاورة" تقدم أكثر من 30 نائبًا في البرلمان بطلبات إحاطة ومساءلة للحكومة، مطالبين بإيقاف مسلسل رفع الأسعار دون الرجوع إلى المجلس، واتهم النواب الحكومة بتعمد اختيار توقيتات الأعياد والمناسبات الوطنية للإعلان عن قرارات موجعة اقتصاديًا، بما لا يراعي الأثر النفسي والاجتماعي على المواطنين.