في الثالثة فجرًا يوم أمس الثلاثاء، استيقظ سكان عزبة الورد بحي الشرابية على ألسنة لهب تتصاعد في السماء، ودخان كثيف يحاصر منازلهم. ما بدا في البداية كحادث عرضي في مغلق أخشاب، سرعان ما تحوّل إلى كابوس ممتد، بعد أن التهمت النيران 9 مغالق خشب، وطالت جزءًا من مسجد، ومبانٍ سكنية مجاورة، وسط حديث يتجدد حول خطط "إفراغ العاصمة" من مساكن محدودي الدخل.
 

قطعة من جهنم وسط الحي
   وصف سكان الحي المشهد بأنه أشبه بـ"قطعة من جهنم" سقطت على المنطقة. ومع اقتراب ألسنة اللهب من المنازل، بدأت قوات الحماية المدنية في تنفيذ عمليات إجلاء سريعة للسكان، بالتوازي مع محاولات محاصرة الحريق.
ورغم الدفع بـ16 سيارة إطفاء و4 سيارات إسعاف، فإن السيطرة الكاملة على الحريق استغرقت أكثر من ساعات طويلة ، تخللتها عمليات تبريد طويلة لمنع اشتعال النيران مجددًا.
 

شبهات وتحقيقات ومخاوف
   حتى الآن لم تحسم الجهات الأمنية وجود شبهة جنائية من عدمه. وتقوم النيابة العامة، بمساعدة خبراء المعمل الجنائي، بمعاينة موقع الحريق وسماع أقوال شهود العيان وأصحاب المغالق، في محاولة لفك لغز اندلاع الحريق وانتقاله بتلك السرعة المدمرة.

في المقابل، أعلن بيان رسمي لمحافظة القاهرة تشكيل لجنة هندسية لمعاينة العقارات المتأثرة، والتأكد من سلامتها الإنشائية. كما تم تكليف مديرية التضامن الاجتماعي بحصر الأضرار، تمهيدًا لصرف تعويضات للمتضررين، وإن لم يحدد بعد ما إذا كانت هذه التعويضات ستُصرف نقدًا أم ستكون في شكل بدائل سكنية.
 

المأساة تتكرّر.. والسؤال عن النية
   حريق الشرابية يعيد إلى الأذهان سلسلة حرائق شهدتها مناطق شعبية في قلب العاصمة خلال السنوات الماضية، من رمسيس إلى بولاق إلى إمبابة.
ورغم اختلاف الظروف، يبقى القاسم المشترك هو وقوعها في مناطق مزدحمة يسكنها "الغلابة"، في ظل حديث لا ينقطع عن خطط إعادة تطوير تلك المناطق، واستبدالها بمشروعات سكنية وتجارية "حديثة" وبيعها لدول الخليج.

فهل يأتي هذا الحريق في إطار الصدفة؟ أم أن ما يحدث هو وجه من وجوه "التفريغ الناعم" للعاصمة من سكانها غير المرغوب فيهم اقتصاديًا، تمهيدًا لرفع قيمتها الاستثمارية؟
وهل تملك الدولة خطة واضحة لحماية حياة هؤلاء المواطنين وممتلكاتهم، أم أن الحريق مجرد مقدمة لصك إخلاء جديد؟
 

خسائرنا بالملايين.. ومصيرنا في المجهول
   يقف أصحاب المغالق اليوم وسط الرماد، يبكون بضاعتهم التي احترقت عن بكرة أبيها.
يقول أحدهم: "المغلق كان فيه أخشاب بملايين، مستوردة ومحلية، كانت جاهزة للبيع، دلوقتي كلها راحِت".
ويضيف آخر: "عايزين نعرف السبب، وعايزين نعرف إحنا رايحين فين بعد كده، هل هنرجع نشتغل؟ ولا هنلاقي البلد كلها بتتغير حوالينا؟".

بينما يتحدث مسؤولو المحافظة عن لجان ومعاينات وتعويضات، فإن الواقع على الأرض يشير إلى مأساة إنسانية واقتصادية صامتة، تُضاف إلى أرشيف طويل من "كوارث الأحياء الشعبية"، التي لا تلقى نفس الاهتمام مثلما يحدث في أحياء القاهرة الراقية.
 

بين الإهمال والتخطيط.. من المسؤول؟
   يرى مراقبون أن تكرار مثل هذه الكوارث يعكس غيابًا واضحًا للرقابة والتخطيط العمراني، ويطرح تساؤلات عن مدى التزام الحكومة بحماية أرواح المواطنين في تلك المناطق، بدلًا من الاكتفاء بالتعامل مع الكوارث بعد وقوعها.

أما السكان، فهم يعيشون بين نارين: الخوف من النيران، والخوف من الطرد. وبينما يواجهون نكبتهم وحدهم، تبقى الحقيقة الكبرى معلقة: من لهؤلاء الفقراء في زمن "المخططات الجديدة"؟