يبدو أن بعض وسائل الإعلام العربية تركز بشكل مبالغ فيه على ترجمة وتحليل كل ما يقوله المسؤولون الأمريكيون والإسرائيليون عن الشرق الأوسط. فكل تهديد يطلقه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وكل تغريدة لمسؤول أمريكي، مهما كانت غير مهمة، تتحول إلى "خبر عاجل"، وكأن ما يقوله الأمريكيون هو العامل الوحيد المحدد لمصير المنطقة.
الأمر نفسه ينطبق على المسؤولين ووسائل الإعلام الإسرائيلية، حيث يتم تضخيم التقارير غير المؤكدة من الصحف مثل جيروزاليم بوست أو إسرائيل اليوم لتصبح حقائق مسلم بها، وكأنها تمثل الرأي العام الإسرائيلي. حتى كتاب مثل توماس فريدمان، الذين تراجعت مكانتهم في المشهد الإعلامي الأمريكي، لا يزالون يشكلون مرجعًا رئيسيًا للعديد من وسائل الإعلام العربية في تحليل السياسات الأمريكية.
هذه الظاهرة لا تخص وسيلة إعلامية بعينها، بل تعكس ثقافة واسعة تعبر عن عقدة نقص مستمرة في بعض الأوساط الإعلامية العربية. ويرجع ذلك جزئيًا إلى ضعف الثقة في الإعلام المحلي، والاعتقاد الخاطئ بأن حرية التعبير في الإعلام الغربي تجعله أكثر دقة وموضوعية. لكن الواقع يثبت أن التغطية الغربية لقضايا الشرق الأوسط كانت دائمًا متحيزة وانتقائية، حتى قبل الحرب المدمرة على غزة.
تأثير الإعلام المحلي في غزة
لقد غيرت الحرب على غزة شكل التغطية الإعلامية العالمية، حيث تصدّر الصحفيون المحليون، معظمهم من خريجي الجامعات الفلسطينية، المشهد الإعلامي العالمي، مما أسهم في تحول الرأي العام الدولي تجاه القضية الفلسطينية. جاء هذا التغيير من خلال التضامن الشبابي على وسائل التواصل الاجتماعي، ومن خلال الإعلام المستقل الذي أعطى مساحة أكبر للأصوات الفلسطينية.
يجب أن يكون هذا التحول نقطة انطلاق لإحداث تغيير جذري في أسلوب إنتاج المحتوى الإعلامي في المنطقة، بحيث يتم تمكين الصحفيين والمدونين المحليين للتعبير عن واقعهم مباشرة للعالم. إلا أن هذا التغيير لم يتحقق بعد، بل على العكس، لا يزال هناك تزايد في الاعتماد على التحليلات والتغطية الغربية، حتى في المجالات الترفيهية.
الحاجة إلى إعادة تشكيل المشهد الإعلامي
يأتي هذا في وقت تشهد فيه المنطقة تغيرات سياسية واجتماعية وفكرية عميقة، ما أفرز أصواتًا فكرية محلية أكثر ارتباطًا بواقعها من أي صحفي غربي. إلا أن وسائل الإعلام العربية تكرر خطأ الإعلام الغربي في تهميش الأصوات القادمة من الجنوب العالمي، مما يكرس الهيمنة الثقافية الغربية.
ووفقًا لنظرية الهيمنة الثقافية لأنطونيو جرامشي، فإن النخبة الحاكمة تفرض رؤيتها عبر الثقافة وليس فقط عبر القوة السياسية والعسكرية. وبذلك تصبح وجهة النظر الغربية "منطقية" حتى في المجتمعات غير الغربية. وهذا ما يفسر استمرار تأثير كتاب مثل فريدمان في العالم العربي، أكثر من تأثير مفكرين محليين تونسيين أو إماراتيين أو مصريين.
هذا النمط من الهيمنة الثقافية ليس جديدًا، فقد تناوله ابن خلدون منذ قرون في المقدمة، حين أوضح أن النخب الحاكمة تفرض لغتها وثقافتها وقيمها على المجتمعات الخاضعة لها. وكما أشار جرامشي وابن خلدون، فإن مقاومة هذه الهيمنة تبدأ بإنتاج خطاب فكري وإعلامي مستقل.
الطريق نحو إعلام عربي مستقل
مع التحولات العالمية الكبرى، أصبح من الضروري للشرق الأوسط، مثل بقية دول الجنوب العالمي، الاستفادة من هذه الفرص لاستعادة استقلاليته الإعلامية وإعادة تأكيد دوره في الخطاب العالمي.
يجب على الإعلام العربي أن يركز على القضايا المحلية من خلال تفعيل دور الصحفيين والمفكرين والفنانين والأدباء من داخل المنطقة. فمن خلال هذه الأصوات يمكن خلق مشاريع ثقافية أصيلة تعكس واقع المنطقة وأولويات سكانها.
لم يعد بإمكاننا الاستمرار في تبني رؤى الآخرين أو استيراد وجهات النظر الغربية. وحتى لو كانت بعض التحليلات الغربية موضوعية، فإنها لن تكون قادرة على التعبير عن تعقيدات قضايانا بنفس الدقة التي يعكسها الإعلام المحلي.
لتحقيق هذا التغيير، علينا أولًا أن نحترم قدراتنا الفكرية والإعلامية، وأن نثق في قدرتنا على التفكير المستقل دون الحاجة إلى التوجيه من المحللين والصحف الغربية.