بسهولة تامّة، يمكن أن تستحضر ما سمّي "التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب"، وتستبدل كلمة الإرهاب بمصطلح "نموذج غزّة"، لا حركة حماس فقط. في البداية، كان التركيز على "حماس" بوصفها إرهاباً، ومكوّناً ديناميكيا غير قابل للتدجين والعيش معه، ثمّ ما لبث الخطاب العام أن أزيح لصالح "نموذج غزّة"، وهو تعبير غير مستعمل علانية، وإن كان مختبئاً داخل عبارات بديلة ملغّزة مثل "إعمار غزّة".

نعم، يا لسخرية المصطلحات حين تطلق كلمة إعمار، وهي تعني سحق غزّة وتدميرها وإبادتها.

   حين أطلق الرئيس الأميركي دونالد ترامب "نكتته" السمجة، الخاصّة بتهجير سكّان قطاع غزّة، وبناء "ريفييرا" مكانه، حسبنا مع كثيرين أنها مجرّد نكتة فعلاً، أو محض جنون خارج الصندوق، لكن الحقيقة تظهر بعد قليل من التفكير، ورصد "ردّات الفعل" دولياً وعربياً وصهيونياً، كانت تلك "النكتة" نوعاً من الكوميديا السوداء المسمومة، فقد انطوت في كنهها على خطط لسحق كلّ "نموذج غزّة"، بوصفه "مرضاً مناعياً" خطيراً تجب إزاحته بالكامل فيزيائياً، كي لا ينتقل بالعدوى إلى بقيّة الجسم العربي والمسلم. ظاهر المقترح الترامبي "إعمار غزّة"، ولكن من دون أهلها، أي "استصلاح الأرض"، وتذويب البشر في محيط أو محيطات بشرية عدّة، للخلاص نهائياً من "الفيروس الغزّي" الخطير، ومن هنا برزت معالم التحالف الدولي لسحق النموذج "الشاذ"، وتوزيع دمه بين القبائل.

   ما هو "نموذج غزّة" الذي استفزّ كل قرون الاستشعار الاستخبارية في العالم الغربي (والشرقي)، وأضاء الأضواء الحمراء كلّها؟... هو مجتمع أو تجمّع "دولاتي" بني خلال ما يزيد على عقد ونصف العقد، بعيداً من كلّ ما تضمّنته منظومة الإخضاع والتنمويم والتغييب والتعليم الموجّه، الهادفة إلى إنتاج جيل رخو بطله وملهمه لاعب كرة قدم، أو مغنٍّ، أو ممثّل، أو صانع محتوى تافه، جيل طموحه الأعلى أن يجمع مبلغاً من المال ليتزوج ويعود آخر اليوم ببطيخة وربطة خبز، يتناول طعامه ويقيّل، ويقضي سهرته مع مسلسل تلفزيوني أُعدّ خصيصاً لإكمال تشكيل وعي جمعي أقصى طموحه أن "يشبع" خبزاً وبقليل من الغموس. "نموذج غزّة"، الذي أريد له أن يعيش تحت الحصار البرّي والجوّي والبحري، استثمر هذا الحصار في تشكيل قوة عسكرية ومجتمعية مؤمنة تحرّشت في ذروة نضوجها بـ"درّة العالم" وبيضته المصون، "إسرائيل"، وهشّمت صورتها على نحو أصاب "التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب" بصدمةٍ تُرجمت هبّةً غير مسبوقة صبّت كلّ ما تملك من سلاح ولوجستيات ومؤونة وغطاء سياسي وأمني واقتصادي، لمواجهة النموذج إياه، وإعانة "الجريح" المدلّل للتعافي، وصبّ ما وصلت إليه يداه من آلة القتل والتدمير لمحاولة مسح "النموذج" من وجه الحياة، شجراً وبشراً وحجراً، فوق الأرض وتحت الأرض، لتكون النتيجة تلك الأرقام الفلكية من الشهداء والجرحى، ومحو كلّ ما يدل على وجود بشر.

لم تكن حرباً بالمعنى التقليدي للحروب، كانت "فزعةً" دولية لمحو كلّ أثر للحياة في تلك البقعة من الأرض، حتى إذا وضعت الحرب أوزارها وخرج "المقاتلون" ببزاتهم المنشّاة وعنفوانهم البهي، جُنّ جنون التحالف وتعمّق "وعيه" وطفقت أذرعه شرقاً وغرباً لإشهار سلاح "الإعمار"، لإكمال ما لم تنجزه نيران مائة ألف طنّ من المتفجّرات.

   التحالف الدولي لمحاربة "نموذج غزّة" لم يزل قائماً، بل اشتدّ أكثر، وامتدّ إلى الضفة الفلسطينية في إجراء استباقي قبل أن يستوي "النموذج" على سوقه هناك. ولهذا لا تجد أيُّ موقف عملي يوقف توحّش الاحتلال في الضفة الغربية، بل شاهدنا انخراط قوىً دوليةٍ وإقليميةٍ ومحلّيةٍ في إعلان الحرب على النموذج، وبدا أن أهل النموذج يواجهون حرباً عالميةً بكلّ ما تحويه الكلمة من معنى، ساهمت (وتساهم) فيها جهات من كلّ نوع وصنف، جمعتها صفة أنها "متضرّرة" من هذا "النموذج" واستشعار خطورة امتداد عدواه إلى عقر ديارهم، بدعوى "الإعمار"، بعد أن فشل التدمير في سحق النموذج ومحوه من وجه الأرض، مع ملاحظة هنا أن كلّ عضو في هذا النموذج أو كلّ غزّي هو جزء من "البنية التحتية للإرهاب"، ولهذا هو مستهدف بالإزالة فيزيائياً، أو تحويله عنصراً غير ذي فاعلية بطرق عدة، تهجيراً أو إدخاله "خطّ إنتاج"، أو إعادة إنتاج، ليصبح عاملاً في ورشة "التعمير" في شركة (عربية)، أو مستخدماً لدى شركات إعادة بناء متعطّشة لمصّ دماء الضحايا، تحت عنوان خطط إعادة الإعمار.

   حجم الحراك الدولي لتمزيق "نموذج غزّة" أكبر بكثير ممّا بدا علناً، فثمّة تسخير لكلّ ما أنتجه العقل البشري من سلاح وذكاء اصطناعي، وتكنولوجيا، وتخطيط شيطاني، وقمم وخطط عربية (!)، لإنجاز المهمّة غير المقدّسة، ولو تسنى لنا أن نحصر حجم التغيير الذي أحدثه النموذج في جيل الشباب تحديداً، غرباً وشرقاً، لكان بوسعنا أن نتخيّل حجم الجهد المبذول لتدميره وإفشال أثره، وملاحقة "فيروسات" الوعي والتحرّر، التي نثرها في فضاء الكرة الأرضية.

   تحتاج نجاة النموذج من الحرب الضروس المُعلَنة عليه مُعجزةً إلهية، بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة، وهي ليست بعيدة من التحقّق، خاصّة إذا علمنا مدى اتصال أعضاء هذا النموذج الربّاني بإلههم جلّت قدرته، ومدى اعتمادهم عليه، لمواجهة "الآخر" الشيطاني.