د. رمضان خميس

أستاذ التفسير وعلوم القرآن في كلية الشريعة جامعة قطر

 

تهيبت كثيرًا، وما زلت أتهيب الكتابة عن هذا الطوفان المبارك الذي أثبت أنه طوفان في كل شيء وعلى كل المستويات، طوفان في تفجير طاقات الإنسان حين يربط نفسه بقوة القدير الذي لا يُقهر، والغالب الذي لا يذل، والعزيز الذي لا يغالَب.

وتهيُّبي هذا ليس نكوصًا عن واجب العلم الذي أتخصص فيه ولا الأمانة التي أحملها بل ذهولًا من سرعة بيان هذه السنن في واقع الحياة، فما كنت أدرسه وأدرّسه لطلبتي تأصيلًا رأيته كما رآه غيري في ميدان الحياة تطبيقًا وتنزيلًا، وهو تهيُّب كذلك للفرق الشاسع والبون الواسع بين ميدان الكلام وميدان العمل، ميدان الكلام الذي نؤصل فيه للناس معاني السنن وميدان العمل الذي أخذ رواده الأشاوس في أرض الميدان في الأرض المباركة، أخذوا بسنن الله تعالى قدر الطاقة البشرية، فأتاهم أكله وحقت لهم نتيجته.

لقد أقام الله تعالى الكون، ظواهر وخلقًا، على سنن حاكمة ونواميس ماضية، لا تتخلف ولا تتبدل، وهذه المنظومة من السنن متشابكة متكاملة، لا تتعارض ولا تتعاند، بل يكمل بعضها بعضًا، ويسند أولها آخرها، ويؤكد آخرها أولها في تناغم واتساق.

وقد حفلت أحداث طوفان الأقصى -هذا الحدث الذي هز العالم مادةً وفكرًا وتصورًا ورصدًا- بمجموعة من السنن تتعاضد بصورة عجيبة، كأن الله تعالى طوى الزمان في زمن وجمع العالم في واحد، فرأينا بعين “العلم” ما كنا نراه بعين “الحلم”، وشاهدنا مشاهدة عيان بعد مقولات البيان، وانتقلت أمامنا “الرؤيا” الحلمية إلى “الرؤية” العلمية، ونطقت الآيات نطق الحال ونطق المقال، وأضحى تنزيلها على الواقع ينادي الكون بأسره: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (القصص: 5).

فرأينا منظومة متشابكة من سنن الله تعالى، رأينا سنن الله في النصر بمفهومه العام الشامل الذي يثبت فيه المجاهد على المبدأ حتى ينال غايته، وقد كان، فلم يأت العدو الغاشم جاثيًا على الركب كما توعده الملثم الشهم الذي تبعث صورته في النفس عزة المسلم ونخوة العربي الأصيل، بل أتى زحفًا منكوس الرأس ورغمًا عن إرادته.

رأينا سنن الله في الابتلاء في الأموال والأرواح والدور وفي كل شيء من ممتلكات الحياة، ورأينا نتيجة الابتلاء نسائم النصر وبشائر الفتح حتى ترتدي الأسيرات زيًّا أشبه بالزي العسكري، ويقف الجندي القسامي شامخًا ممتشقًا سلاحه الذي غنمه من عدوه، بل السلاح الذي لا يكون إلا مع النخبة من العسكريين الصهاينة.

رأينا سنن الله في التدافع بين الحق والباطل، وكيف أن الحق شامخ شموخ الجبال، ثابت ثبوت الرواسي، حتى أعاد روح الجهاد للأمة من أقصاها إلى أقصاها. ورأينا الباطل زاهقًا بل زهوقًا، كما أتت السنن الجارية: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}، زهوقًا صيغة مبالغة في اندحاره واندثاره لو كان قومي يعلمون، زهوق مثل نفوق وهلوك وأكول.

رأينا سنن الله في الحفظ والتأييد، وكيف أن الله تعالى يحفظ جنده وعباده على الرغم من المجسات الحرارية التي لا يند عنها شاردة ولا واردة، والطائرات المسيَّرة التي تحلق فوق رؤوس القوم ليل نهار، تلتقط أي إشارة بل الطير الشارد، ولا تقع على شيء، وكأن غزة وأهلها صاروا في عداد الفناء، ثم يفاجئنا منظر تسليم الأسيرات ومظهره، وكأن القسامي نحلٌ خرج من خليته، وكأن أهل غزة كتل بشرية بل موج من البشر وسيل يتدفق ولا يترفق.

رأينا سنن الله في التوفيق والخذلان، رأيناها في صور عديدة من بداية الطوفان وتوقيته وإعداده وآثاره، رأيناها في مشهد الطوفان في بدايته وفي أثنائه، وفي مشاهد عديدة أظهرها “ما خفي أعظم”، رأينا قمة التوفيق في ظهور المغوار يحيى السنوار الذي يتوكأ على عصاه وكأنها عصا موسى يهش بها السحرة لا الغنم، فيبطل السحر الساحر، ويقع الحق ويبطل ما كانوا يفترون، مما كانت تذيعه وتشيعه قنوات عربية مأفونة تحب كل شيء إلا ما فيه عز المسلمين وشهامة الغر الميامين.

رأيناها في البسمة التي تملأ وجه السنوار وهو يتهادى ويترنم ببيت أحمد شوقي الرائع الذائع الماتع:

وللحرّيةِ الحمراءِ بابٌ *** بكلِّ يدٍ مُضرَّجةٍ يُدَقُّ

وكأنه يتعمد هذا الاختيار ليربط بين شوقي ابن النيل وحسن الخراط ابن الشام، وبين نفسه هو ابن الأرض المباركة؛ حتى يترك رسالة للأجيال أن عز الأمة في وحدتها، وأن قوتها في ارتباطها بدينها ومبادئها.

رأينا سنن الله في المكر والماكرين، فكم حيكت ألاعيب ودسائس من بني جنسنا وأبناء جلدتنا لابتلاع هذا القطاع ابتلاعًا لا رجعة بعده؛ حتى يتكلموا عن اليوم التالي للحرب، وقد بهرهم ما بثته الجزيرة من صور الحاضنة الشعبية الملتفة حول مجاهديها التفاف الأغصان حول الجذور والجذوع، أرتهم صورة اليوم التالي وحدة بين الحاضنة الشعبية والمجاهدين بصورة فوق ترتيب البشر بل هي المدد الإلهي الخالص.

رأينا سنن الله في الخائنين، الذين انكشف عارهم وبان عوارهم في تعاملهم في مخيم جنين حتى كانوا سندًا وعضدًا للمحتل الغاشم على أبناء دينهم وجنسهم.

بل كشفت حجم الخيانة على مستوى بلدان وحدود كثيرة، إذ رأوا الفلسطيني الأعزل يأكل أوراق الشجر ولا يجرؤون على إمداده بما يقيم صلبه، نازلين عن مستوى الجاهلية الجاهلة التي أبت أن تشبع والمظلومون في شِعب أبي طالب محرومون.

رأينا سنن الله تعالى في الكافرين، وأنهم ملة واحدة كما أخبرتنا سنن الله تعالى الجارية: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} (الأنفال: 73).

رأينا سنن الله تعالى في توهين كيد الكافرين، وتحققنا {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} (الأنفال: 17-18)، وكيف أن العالم الكافر أجمع تجمَّع على هذه الفئة المجاهدة، فذابت الحدود وعبرت البواخر تمخر عباب البحار والطائرات تسير عبر الصحاري والقفار، لا تحترم حدودًا ولا فواصل مع أنهم ليسوا أمة واحدة بل منازع شتى حتى:

تفرَّقَ شملُهم إلا علينا *** فصرنا كالفريسةِ للكلابِ

ومع كل هذا التجمع اليهودي الصليبي الصهيوني إلا أن سنن الله ماضية، وناموسه لا يتخلف ولا يتأجل في نصر أوليائه ومحق أعدائه.

رأينا سنن الله تعالى في المنافقين، وكيف أنهم يكونون ملكيين أكثر من الملك، ولا يختلف في هذا صاحب لحية كفور عن لئيم مأجور، حتى يصرفوا المجاهدين عن الغاية الأساسية، فيقول قائل منهم: جاهد بالسنن يا أبا عبيدة، ويقول آخر: إن الله سيسألك عن التنزه من البول ولا يسألك عن حال أهل غزة.

رأينا سنن الله تعالى فيما ينفقه الكافرون، وكيف أن هذه الأرقام الفلكية التي يسخرها الغرب الكافر ويمررها أذيال الشرق التابع تذهب هباءً أدراج الرياح، كما مضت بذلك سنن الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ * لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (الأنفال: 36-37).

رأينا سنن الله في التمييز بين الطيّب والخبيث، التمييز بين الخبيث والطيب في كل شيء، في الرجولة والمواقف، في الأفكار والمبادئ، في القيم والمعادن، فبان الأصيل من الدخيل، والنبيل من الرذيل، والجدع من الجزع، حتى يتفوق سائق شاحنة أصيل على أصحاب عمائم ولحى باعوا لحاهم وعمائمهم للدينار والدولار، تمييز في كل شيء.

رأينا سنن الله في التغيير، فتغيرت مبادئ وأفكار على ضوء ما صنع الطوفان وكشفه “ما خفي أعظم”، على مستوى شباب الجامعات في الغرب، وعلى مستوى ملاحدة لم يعرفوا الإله فإذا بهم يتعرفون قدرته ولطفه وعنايته وستره.

رأينا سنن الله في القلة والكثرة، وتأكدنا بالبصر أن القلة العاملة تهزم الكثرة النائمة، وأن الاستعداد على قدر الاستمداد، وأن الجود على قدر الممدود، وأن الجود من الموجود، وأنه {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا…} (البقرة: 286) {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (الطلاق: 7).

رأينا سنن الله في التمكين، وهو وإن بدا اليوم تمكينًا فرديًّا على مستوى أشخاص وأفراد إلا أن هذه أول صور التمكين الذي يعقبه التمكين الكامل بأمر الله تعالى، وعند الصباح يحمد القوم السري، كما يقول العرب.

ولا تزال سنن الله تعالى تخبرنا بالكثير، ولو وعى العرب والمسلمون هذه السنن الجارية ووظفوها في حياتهم لفُتحت عليهم خيرات الأرض وبركات السماء، لأن سنن الله لا تحابي ولا تجامل.

"وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ"