في بلد يواجه أزمة سكانية متفاقمة ونقصاً حاداً في الأراضي، تحوّلت المقابر في مصر من مجرد أماكن لدفن الموتى إلى سوق نشط يتنافس فيه المستثمرون والسماسرة، حيث أضحت تجارة المدافن استثماراً مربحاً في ظل الطلب المستمر عليها.
 

ارتفاع جنوني للأسعار ومضاربة في السوق
   على مدار العقود الماضية، شهدت أسعار المقابر قفزات غير مسبوقة، متأثرة بندرة الأراضي المتاحة داخل الحيز العمراني، إلى جانب تدخل سماسرة الموت الذين يستغلون حاجة المواطنين لشراء مقابر بأسعار خيالية.
وفي الوقت الذي تحاول فيه وزارتي التنمية المحلية والإسكان توفير قطع أراضٍ بأسعار مناسبة، يجد معظم المواطنين أنفسهم غير قادرين على مجاراة الأسعار التي قد تتجاوز حاجز المليون جنيه للمقبرة الواحدة.

يقول عادل عبد الصمد، أحد العاملين في مقابر أبيس بالإسكندرية، إن "الطلب المرتفع على المقابر وقلة الأراضي المتاحة في المناطق المأهولة أديا إلى تضاعف الأسعار، حيث تبدأ من 160 ألف جنيه في المناطق النائية وغير المرخصة، وتصل إلى أكثر من مليوني جنيه في بعض المناطق الراقية، خاصة مع دخول شركات للاستثمار في بناء مقابر فاخرة مزودة بأحدث الأنظمة الأمنية والتصميمات الفاخرة".
 

معاناة الفقراء والطبقات المتوسطة
   في ظل هذا الارتفاع الجنوني، باتت المقابر سلعة ترفيهية لا يقدر عليها سوى الأثرياء، بينما يواجه الفقراء وأبناء الطبقة المتوسطة صعوبات بالغة في تأمين أماكن لدفن أحبائهم.
بعضهم يلجأ إلى الاشتراك الجماعي لشراء مقبرة واحدة، فيما يضطر آخرون إلى دفن موتاهم في "مقابر الصدقة"، التي توفرها الجمعيات الخيرية لمن لا يملكون ثمن مدفن خاص.

يجلس السبعيني أحمد عبد الغني، على دكة خشبية متهالكة بجوار مقابر المنارة في وسط الإسكندرية، متأملاً في وجوه الزوار، بحثاً عن فرصة لشراء مقبرة بسعر معقول، يقول: "زرت عشرات الجمعيات الخيرية، لكن الطلبات تفوق الإمكانيات، ولم أجد حتى الآن مكاناً بسعر يناسب وضعي المادي".
 

المضاربة والاحتيال في سوق المقابر
   لم تقتصر الأزمة على ارتفاع الأسعار فحسب، بل امتدت إلى انتشار جرائم النصب، حيث يستغل بعض السماسرة حاجة الناس إلى أماكن دفن، فيبيعون أراضٍ غير مخصصة للمقابر، ما يؤدي لاحقاً إلى هدمها من قبل السلطات.
ووفق ما أكده النائب حسني حافظ فإن "السياسات الحالية لتخصيص الأراضي تحتاج إلى مراجعة شاملة، مع فرض رقابة صارمة على عمليات البيع والشراء، لمنع التلاعب في سوق المقابر".
 

استثمارات عقارية في المقابر... رفاهية حتى بعد الموت
   لم تعد المقابر مجرد أماكن للدفن، بل تحوّلت إلى استثمارات مربحة لشركات عقارية تقدم خدمات فاخرة تشمل الحدائق، غرف الاستراحة، وأنظمة الحماية المتطورة، حتى بات بعضها يُعرف بـ"القصور الأبدية".

محمود بسيوني، مدير إحدى شركات التسويق العقاري، يؤكد أن "ارتفاع أسعار المقابر يرجع إلى انخفاض قيمة الجنيه المصري واحتكار بعض الشركات للسوق، حيث يصل سعر المقبرة الواحدة في بعض مناطق القاهرة إلى ملايين الجنيهات، وسط إقبال من الأثرياء الذين يرون في هذه المقابر استثماراً طويل الأمد".
 

البعد الثقافي والرمزي للمقابر في مصر
   تشير الباحثة الاجتماعية نجلاء عبد المنعم إلى أن "المقابر كانت تحمل رمزية روحية واجتماعية في الثقافة المصرية، لكنها تحولت اليوم إلى رمز طبقي يعكس الفجوة الاقتصادية الهائلة بين الأغنياء والفقراء، أصبح البعض يتباهى بامتلاك مقابر فاخرة تظهر مكانتهم الاجتماعية، بينما يعجز المواطن البسيط عن إيجاد مدفن لائق".