مَن الذي يمكنه قيادة الآخرين والتأثير فيهم وصناعة الحياة وإحداث طفرات نوعية في واقع الناس؟ سؤال مهم يحتاج إلى تأمّل ودراسة وتفكير .

تُرى هل هم أصحاب الشهادات العُليا؟ أم هم أصحاب المناصب والجاه والمستويات الاجتماعية الرفيعة؟ أم هم ذوو المال ورجال الأعمال؟

أو ربما هم أصحاب الأجسام القوية والوجوه الوسيمة الجميلة؟ أم أنهم أولئك الذين صقلتهم الأيام وحنَّكتهم التجارب؟ أم قد يكونون هم الأذكياء والعباقرة الأفذاذ؟ أم غيرهم؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال نود الإشارة إلى أنه ما من إنسان إلا ويتمنّى أن يكون شيئًا مهمًا في هذه الحياة، ولو أنك جئت إلى صعلوك لا قيمة له في الحياة وقلتَ له: يا صعلوك أو يا تافه، لسبّك وشتمك.

ولو ناديت جاهلًا قابعًا في ظلمات الجهل وقلتَ له: يا جاهل، لربّما صفعك على وجهك صفعة أطارت الشرر من عينيك، ذلك لأنَّ مطلب كل إنسان أن يكون له وزن في دنيا الناس وأن يُعدّ رقمًا صعبًا لا صفرًا لا قيمة له.

إن الإجابة عن السؤال سالف الذكر تحتاج منا إلى تبيان وتوضيح، ويمكن أن يكون ذلك في النقاط السبع التالية:

 

زكاة النِّعم

يقول الله تعالى مبينًا نعمه التي لا تعد ولا تحصى: " وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تَعُدُّوا نعمة الله لا تُحصوها إن الإنسان لظلوم كفار".

إن الله قد يهب بعض الناس نعمة أو نعمًا كثيرة مثل: وجاهة، مؤهل أكاديمي، مَنصب، مال، ذكاء، وسامة، قوة جسدية، أو غير ذلك، وكلما زادت هذه النعم كلما كان لزامًا على الإنسان أن يؤدي حقها، وحقها بإنفاقها لا بحبسها، أي: باستخدامها لما فيه النفع للآخرين.

 

كنوز كامنة

كل نعمة من النعم سالفة الذكر قد يكون لها تأثير إيجابي كبير في تمكين صاحبها وزيادة تأثيره في الحياة، لذا يحسن بالعاقل استثمارها، وإلا فهي كنوز كامنة معطّلة ينظر إليها صاحبها ولا يتذوق حلاوتها.

وفي هذا يقول الله تعالى: "فكلوا ممَّا رزقكم الله حلالًا طيبًا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون".

 

دافع ذاتي

كثير من الناس لا يمتلكون الدافعية الذاتية التي يمكنهم بها تفجير طاقاتهم وتسخير إمكاناتهم لتحقيق واقع مُشرِّف لهم ولأمتهم، وفي هذا يقول شوقي:

شباب قُنَّعٌ لا خير فيهم         وبورك في الشباب الطامحينا

ويقول حافظ إبراهيم:

لعـلّ في أمـة الإسـلام نابـتةً        تجلو لحاضرها مرآة ماضيها

حتى ترى بعضَ ما شادتْ أوائلُها         من الصُّروحِ وما عاناه بانيها

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه، وعن علمه فيما عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه". ( رواه مسلم عن أبي برزة الأسلمي)

 

النجاح الحقيقي

إن النجاح الحقيقي الذي يحق لصاحبه الافتخار به هو ذلك النجاح الذي صنعه هو ببذله وجهده وطول عنائه بعد توفيق الله له، أما الذي يفخر بأمجاد آبائه وأجداده التي ولّت وهو لا يصنع شيئًا ولا يستكمل هذه الأمجاد أو يضيف إليها ما يحفظها ويرفعها، فهذا مسكين يستحقّ الرثاء والشفقة، وصدق ابن هانىء الأندلسي حينما قال:

ولم أجد الإنسان إلا ابن سعيه        فمن كان أسعى كان بالمجد أجدرا

وبالهمة العلياء يرقى إلى العلا         فمن كان أرقى همـة كان أظهرا

ولم يتأخر من يريد تقـدمـا             ولم يـتقـدم من يـريد تأخـرا

 

V I P

 إن من عدالة الله عز وجل في خلقه أنه لم يجعل الغلبة والقيادة والتأثير وصناعة الحياة حكرًا على فئة ( VIP) (أو الناس المهمين جدًا)، وإنما رفع أناسًا لم يكن لهم ذكر، وأعزَّ أقومًا لم يكونوا سادة القوم، وقدَّم نفرًا من الناس كانوا في المؤخرة، وأخرج من بين الضعفاء أئمةً وقادة، إذْ الضعيف لا يظل ضعيفًا طول حياته، والقوي لا تدوم قوته أبد الآبدين، وصدق الله تعالى إذْ يقول: "ونُريد أن نمُنَّ على الذين استُضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين. ونمكِّن لهم في الأرض ونُريَ فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون".

 

عقدة النقص

إن أسوأ ما يُبتلى به المرء أن يُصاب بعقدة النقص، فيشعر أنه غير مؤهل للتأثير وصناعة الحياة، وأنه ناقص، ولا يمكن له استكمال نقصه وسدّ ثغراته، فيشعر بالدون، ويتبادر إلى ذهنه دائمًا أن غيره أكمل منه وأقدر على قيادة الحياة، ولذلك تراه منطويًا على نفسه، منكسرًا في ذاته، مُكبلًا بأوهامه، عاجزًا عن فعل أي شيء حتى لو كان بإمكانه فعله.

ولم أرَ في عيوب الناس عيبًا       كنقص القادرين على التمام

يقول "كونفوشيوس": إن ما يثير قلقي هو أن لا أتحسن في مجالات تفوقي، وأن لا أستفيد من كل ما درسته، وأن أعرف ما هو الشيء الملائم والصحيح ولا أستطيع أن أتغيّر لأحقّقه، وأن أكون غير قادر على معالجة مواطن إخفاقي وعجزي.

تلك كلمة جميلة سطّرها الحكيم الصيني "كونفوشيوس"، تحمل في طياتها معانٍ كثيرة، وتَنم عن حرص على تغيير الواقع ومعالجة ثغراته، رغبةً في صناعة التأثير وإحداث شيء نافع في واقع الناس.

 

الصدر أو القبر

إن صناعة التأثير إنما تنبع من ذات الإنسان مهما كانت مؤهلاته الأكاديمية أو قدراته العقلية أو منصبه الوظيفي أو مستواه الاجتماعي أو خبرته الحياتية أو جنسه أو سنّه أو إمكاناته المادية أو غير ذلك.

إن أمثال هؤلاء النفر لا يقرّ لهم قرار ولا تهنأ لهم حياة حتى يجدوا أنفسهم في المقدمة، ويروا تأثيرهم قد بلغ الآفاق، وعمّ نفعهم هنا وهناك، بل وبصماتهم نُقشت في واقع الناس، ولسان حالهم يقول:

ونحن أناس لا توسط عندما    لنا الصدر دون العالمين أو القبر

بعد النّقاط السبع سالفة الذكر يتبين لنا أن إحداث التأثير وصناعة الحياة والنهوض بالأمم والمجتمعات يمكن (بعد توفيق الله تعالى) أن يسهم فيه، بل ويتصدّره، كل إنسان احترم قدراته واعتنى بنفسه وارتفعت همَّته وعَلتْ طموحاته، مهما كانت نواقصه وكَثُرت ثغراته، فالأمر فيه سعة ولا يحق لنا تضييقه أو تحجيمه.