إن الإنسان في بنيته النفسية والعقلية عبارة عن حزمة من القيم التي يتلقاها من محيطه الاجتماعي والثقافي والعرفي وانتمائه الديني، هذه القيم هي التي تحدد طبيعة شخصيته النهانية، وطريقة تفكيره، وتؤطر نمط حياته، وتنمحه رؤية لفلسفة للتعامل مع الوجود، فما دامت القيم حية في الأمم، فهي إذن معافاة وقادرة على الإنتاج الحضاري، ولكن حينما تموت القيم تموت الأمم، لأن القيم هي الروح التي تحيى بها الأمم، والقلب النابض الذي يعطي لجسم الأمة الطاقة والقدرة من أجل الحركية والعطاء والبناء، والقدرة أيضا على النهوض والانبعاث من جديد.

إن أي حضارة أو مجتمع أو فرد يحتوي في على خارطة من النماذج الإدراكية المعرفية الكامنة، فهذه النماذج هي المحركة للأشواق والأفكار والأفعال التي يقوم بها الإنسان في حركة حياته داخل مجتمعه، بحيث تصبح أسلوب حياة مفضلة عنده.
وهذه النماذج هي حزمة القيم التي يعتقدها ويعتنقها ويفلسف بها نظرته للوجود، ويقوم عن طريقها باعتماد نماذج تفسيرية للأحداث والمواقف والأشياء التي تدور في فلكه ومحيطه.

ومنظومة القيم بالنسبة للإنسان والحضارة، مركزية في تحديد معالم الشخصية الإنسانية و هويتها ومكوناتها، فهناك القيم الجماعية التي توحد بين المجتمعات والحضارات وتميزها عن بعضها البعض، وهناك القيم الفردية التي تميز الفرد عن غيره، فكل فرد يمتلك قيما مخالفة للآخر، بحيث تصبح تلك القيم هي الأدبيات الأخلاقية التي تشكل صورة عن ملامح شخصيته النهائية والتي تميزه عن غيره، فلا يمكن أن نجد حضارة بدون قيم، ولا إنسان بدون قيم كذلك.

ويعتبر الشباب عماد الأمم، وسر نهضتها وتقدمها، وركيزتها الأساسية في النهوض الحضاري، والأمة التي لا تملك في بنيتها الديمغرافية كثلة شبيبية، أمة آيلة للفناء والانقراض، كما قال امحمد طلابي المفكر المغربي “لا نهضة حضارية شاملة بدون صفوة عالمة وشبيبة عاملة”، فأي حركة تغييرية في التاريخ القديم أو المعاصر قامت على أكتاف وسواعد الشباب، لتوفرهم على عوامل التحرر الفكري واللياقة البدنية الكاملة، والحيوية الروحية التي تتمثل في قوة الانطلاق إلى بناء المستقبل.

وإن من دوافع التغيير والتجديد والنهضة، الثورة على النماذج الفاسدة المؤسسة لمنطق المطاوعة والخوف، واتباع الفكر الآبائي والنماذج الجاهزة في تفسير حركة الحياة والأحياء، فأي حركة تنشد التغيير من داخل المجتمع عليها أن تقوم على أساس معرفي وثقافي، تسعى من خلاله إلى إعادة بناء الخارطة الإدراكية المعرفية مؤسسة على العقل والدليل والتجربة والحكمة والسنن الجارية في حركة الكون والمجتمع.

وعنصر الشباب هو الوحيد القادر على تجاوز منطق الفكر التقليدي، وحسن الانعتاق من النماذج الجاهزة في التفسير، وهو الأقدر على إعادة بناء خارطته العقدية والثقافية وفق نظريات جديدة، لذا كان الشباب محور كل الحركات التحررية في تاريخ الحضارات الإنسانية.

فالإنسان الذي وصل إلى سن الكهولة من الصعب عليه تغيير أفكاره ومعتقداته وعاداته التي ورثها من آبائه وأجداده ومجتمعه، فهذه الأصول تشكل عنده العنصر المقدس الذي لا يمكن زعزعته من مكانه على الإطلاق، فهي إذن نماذج معرفية وإدراكية كامنة مؤسسة للشخصية نهائية مطلقة سارية في الوجود، والمعلوم أن الرسول ﷺ حالفه الشباب وخالفه الشيوخ، فأفكار الإسلام قد لقيت استحسانا وقبولا عند الشباب، وإعراضا وجحودا وإنكارا من طرف الشيوخ، دافع عنها الشباب بالغالي والنفيس، وحاربها الشيوخ بالغالي والنفيس أيضا. فالفكر التقليدي (الآبائي) والثقافة أو المعرفة القديمة سلطة كابحة للفكر التجديدي، ومن إنتاجاتها قداسة الفكر والاستبداد في المواقف.

وفيما يروى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كلما طرحت في مجلس الشيوخ مسألة صعبة، كان رأيه أقرب إلى الصواب، ويحكى أيضا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان “إذا أعياه الأمر المعضل، دعا الأحداث فاستشارهم لحدة عقولهم”، فالشباب لهم عقول سليمة حادة نقية، لم تخالطها مفسدات التفكير والتعلق بالنماذج الإدراكية الجاهزة في التفسير، بل لهم – الشباب – قدرات إدراكية عالية تتميز بالدقة والتدفق المعرفي والمنهجي والذكاء الروحاني، لذلك فالشباب هو العنصر البشري الوحيد القادر والقابل للتجدد الكلي والجذري، والمؤهل لصناعة الفرق والتحول والتغيير في معادلة التدافع والنهوض الحضاري.