تشهد مصر في السنوات الأخيرة حملة واسعة من الخصخصة وبيع أصول الدولة لأطراف محلية ودولية، لتلبية اشتراطات صندوق النقد الدولي.
ومن ضمن الشركات المستهدفة بالخصخصة، تلك التي تتبع الجيش، وهو ما يثير جدلًا كبيرًا خاصة في ظل تأكيد نظام السيسي على أن هذه الأصول تمثل جزءًا من الأمن القومي المصري.
ومن بين هذه الأصول شركة "وطنية" للخدمات البترولية التي استحوذت على جزءٍ كبير من النقاش حول حدود "الأمن القومي" في ظل ضغوط الخصخصة.
دوافع الخصخصة وضغوط صندوق النقد الدولي
تمر مصر بمرحلة اقتصادية حرجة في ظل التزايد المستمر في معدلات الديون وارتفاع معدلات التضخم وانخفاض قيمة العملة المحلية.
وقد دفعت هذه الأوضاع حكومة السيسي إلى البحث عن طرق غير تقليدية لسد العجز وتوفير السيولة، ومن ضمن هذه الطرق هي عملية الخصخصة وبيع الأصول المملوكة للدولة.
ويعتبر صندوق النقد الدولي من أبرز الأطراف المؤثرة على السياسات الاقتصادية في مصر، حيث يشترط تقديم حزم تمويلية لمصر بشرط التزامها باشتراطات تحت مسمى إصلات اقتصادية تشمل زيادة مشاركة القطاع الخاص وتقليل تواجد الدولة في الاقتصاد.
الجيش والاقتصاد: امتداد عسكري في قطاع الأعمال
تستولي القيادات العسكرية استيلاء واسعًا على قطاع الأعمال داخل البلاد؛ إذ يمتد نفوذهم ليشمل مجالات متنوعة من الصناعات الغذائية إلى الخدمات البترولية والتطوير العقاري.
وقد ظلت تلك الشركات بعيدة عن متناول الخصخصة لسنوات طويلة بدعوى أنها تمثل جزءًا من الأمن القومي المصري، إلا أن الأوضاع الاقتصادية المتدهورة دفعت صندوق النقد وغيره من الجهات المانحة إلى المطالبة بفتح هذا القطاع أمام المستثمرين من القطاع الخاص كجزء من حزمة الإصلاحات المطلوبة.
شركة "وطنية" والنموذج الجديد: صيغة "Fuel Up"
تُعد شركة "وطنية" للخدمات البترولية المملوكة للجيش من بين الأصول التي واجهت ضغوطًا متزايدة للخصخصة.
وللتوفيق بين متطلبات صندوق النقد واعتبارات الجيش، اتفقت حكومة السيسي على تقسيم أصول الشركة، بحيث يتم طرح محطات الوقود التابعة لها في المدن للبيع تحت مسمى جديد "Fuel Up"، بينما تبقى المحطات الحدودية وتلك الواقعة على الطرق السريعة تحت سيطرة الجيش.
وعلى الرغم من أن هذه الخطوة تعكس محاولات لإيجاد حل وسط، إلا أن هذا التقسيم لم يكن كافيًا لإزالة المخاوف المرتبطة بالخصخصة خاصةً في ظل عدم شفافية المعلومات المالية والإدارية المتعلقة بشركة "وطنية".
غياب الشفافية وصعوبة التقييم المالي لشركات الجيش
أحد أكبر التحديات التي تواجه عملية الخصخصة هي عدم وجود شفافية كاملة حول البيانات المالية والإدارية المتعلقة بشركات الجيش.
فعلى سبيل المثال، لا تتبع شركة "وطنية" نموذجًا ماليًا موحّدًا، وتفتقر إلى تقارير واضحة عن الرواتب والأجور ومصادر الأرباح والخسائر، مما يجعل تقييم الشركة بشكل دقيق أمرًا صعبًا للمستثمرين المحتملين.
كما أن أصول الشركة، مثل الأراضي والعقارات، ليست موثقة بطريقة تتيح متابعة حيازتها وتقييمها، مما يُصعب عملية تقييم المخاطر ويرفع من تكلفة الاستثمار بها.
تلاعب مفهوم الأمن القومي: محاولة للالتفاف على الخصخصة؟
من الجدير بالذكر أن مفهوم "الأمن القومي" يتم التلاعب به كثيرًا في سياق بيع الأصول العامة؛ فبينما يتم تبرير بيع موانئ ومطارات سيادية بأسباب اقتصادية، يُرفض بيع محطات وقود الجيش في المناطق الحدودية باعتبارها جزءًا من الأمن القومي.
إن هذه الانتقائية في تطبيق مفهوم "الأمن القومي" تؤدي إلى تساؤلات حول مصداقية النوايا الحكومية، حيث تبدو الأولوية موجهة نحو الحفاظ على الأصول التي يستفيد منها الجيش ماليًا، بدلًا من حماية تلك التي تعتبر حيوية للأمن القومي بشكل حقيقي.
الأرباح الضائعة وفرص التنمية غير المستغلة
أشار خبراء اقتصاديون إلى أن الاحتفاظ بالأصول الحكومية، ومنها شركات الجيش، وتحفيزها نحو الإنتاجية والكفاءة كان يمكن أن يكون خيارًا بديلًا يعزز الإيرادات بدلًا من بيعها.
كما أن وجود خطة تنموية واضحة تتضمن تحسين الأداء الضريبي وتوجيه الاستثمار نحو مشروعات تخدم المواطنين بشكل مباشر قد يساهم في تحسين الاقتصاد دون الحاجة لبيع الأصول السيادية.
ومع ذلك، يبدو أن النظام يميل إلى خيار الخصخصة حفاظًا على استمرارية المشاريع العقارية والبنية التحتية الجديدة، مما يضمن استمرار الشركات المملوكة للجيش بالعمل ويحافظ على الأرباح المتدفقة إليها.
الخصخصة أمام حاجز الجيش وصندوق النقد الدولي
بينما يتبنى الجيش استراتيجية مقاومة بيع أصوله، فإن صندوق النقد الدولي من جانبه يواصل الضغوط لتنفيذ ما يسمى بالإصلاحات الاقتصادية.
وفي هذا السياق، يصبح الحل الوسط هو التوصل إلى صيغة تسمح ببيع جزء من أصول شركات الجيش دون المساس بالجزء الذي يعتبر حساسًا.
ومع ذلك، فإن التوصل إلى حلول وسط كهذه قد لا يرضي جميع الأطراف، ويترك السؤال معلقًا حول مدى استعداد الجيش للتنازل عن أصوله الاقتصادية بالكامل في ظل استمرار ضغوط صندوق النقد.
السيناريوهات المستقبلية: هل يمكن للخصخصة تحقيق توازن بين الاقتصاد والأمن القومي؟
تتركنا التطورات الحالية أمام عدة سيناريوهات محتملة:
- استمرار الضغوط: مع تزايد الضغوط من صندوق النقد ومؤسسات التمويل الدولية، قد يجد الجيش نفسه مجبرًا على بيع المزيد من أصوله، إلا إذا تم التوصل إلى اتفاقات جديدة تتيح الحصول على التمويل بطرق أخرى.
- الالتفاف على الخصخصة: قد تستمر حكومة السيسي في تطوير صيَغ التفافية تتيح للجيش الاحتفاظ بأصوله الرئيسية مع الالتزام جزئيًا بمتطلبات الخصخصة.
- تفاقم الأزمة الاقتصادية: في حال استمرار الانحياز لخصخصة أصول الدولة الأكثر ربحية وتفضيل الشركات التي تخص الجيش، قد يؤدي ذلك إلى تفاقم الأزمات المعيشية، مما يؤثر بشكل مباشر على الأمن القومي الحقيقي المتعلق بحياة المواطنين وقدرتهم على تلبية احتياجاتهم الأساسية.