تشهد إسرائيل منذ عقود طويلة انتقادات واسعة حول كيفية تعاملها مع جنودها، ولا سيما أولئك الذين ينتمون إلى ديانات غير اليهودية. تسعى هذه الدولة ذات العقيدة العسكرية الصارمة إلى تصوير نفسها كدولة ديمقراطية حديثة ومتقدمة، إلا أن الواقع يكشف عن تناقضات عميقة في تعاملها مع بعض فئات جنودها. قصة الجندي الإسرائيلي دافيد بوغدنوفسكي، الذي قُتل في معارك خان يونس في ديسمبر 2023، تسلط الضوء على هذه التناقضات. دافيد لم يكن يهودياً، بل مسيحياً، وقد اختار الانضمام إلى الجيش الإسرائيلي على الرغم من كونه جزءًا من أقلية دينية. ولكن بعد موته، تعرضت ذكراه للإهانة بسبب عقيدته المسيحية، مما يعكس واقعاً مريراً يعيشه الجنود غير اليهود في الجيش الإسرائيلي. قصة دافيد: التضحية بلا تقدير دافيد بوغدنوفسكي، وهو جندي مسيحي من أصول روسية، قاتل في صفوف الجيش الإسرائيلي ضد المقاومة الفلسطينية في غزة. ورغم التضحيات التي قدمها في خدمته العسكرية، والتي انتهت بمقتله في خان يونس، إلا أن التعامل الذي حظيت به ذكراه بعد وفاته يكشف عن مدى تهميش الجنود غير اليهود داخل الجيش الإسرائيلي. عند دفنه في مقبرة عسكرية إسرائيلية، وُضع على قبره صليب يعكس ديانته المسيحية. ولكن هذا الرمز الديني أثار غضب العديد من اليهود المتشددين الذين يعتبرون أن الصليب يمثل رمزاً دينياً يتناقض مع عقيدتهم. وبدلاً من أن تحترم إسرائيل عقيدة هذا الجندي الذي قاتل وقُتل من أجلها، اتخذ الجيش والدولة إجراءات لإخفاء الصليب أثناء جنازات أخرى في المقبرة، بل وأرسلت اللجنة العامة لتخليد ذكرى الجنود خطاباً لعائلته تطالبهم بإزالة النصب الذي يحمل الصليب. هذا الطلب القاسي أثار غضب عائلة دافيد وأصدقائه، الذين يرون في هذا الإجراء خيانة لذكرى ابنهم. يقول والده: "الجيش والدولة خانا ذكرى دافيد. أنا لا أفهم لماذا يجب علينا إزالة رمز عقيدته. لقد قدم حياته من أجل هذه الدولة، والآن لا يوجد من يساعدنا سوى أصدقائه الذين يحاولون، لكنهم لا ينجحون." العقيدة العسكرية الإسرائيلية: جنود أدوات بلا قيمة تعكس قصة دافيد بوغدنوفسكي واحدة من تجليات العقيدة العسكرية الإسرائيلية، التي تهدف في جوهرها إلى تحقيق أهداف استراتيجية بأي ثمن، حتى لو كان ذلك على حساب الجنود الذين يخدمون في صفوفها. تضع إسرائيل في مقدمة اهتماماتها تحقيق التفوق العسكري على خصومها، لكنها في المقابل تظهر عدم اكتراث بحقوق أو مشاعر جنودها، خصوصاً إذا كانوا من غير اليهود. تعتمد العقيدة العسكرية الإسرائيلية على فكرة أن الجندي هو في المقام الأول أداة لخدمة الأهداف الاستراتيجية للدولة. هذه العقيدة تسعى إلى تقليل الخسائر في صفوف الجنود اليهود بأي ثمن، في حين تعتبر الجنود من الأقليات الدينية، مثل المسيحيين والمسلمين والدروز، أقل أهمية. يُستخدم هؤلاء الجنود غالباً في المهمات الأكثر خطورة وصعوبة، دون النظر إلى دياناتهم أو معتقداتهم الشخصية، ما يجعلهم عرضة للتهميش والإقصاء بعد وفاتهم. إهمال حقوق الجنود غير اليهود لا تقتصر سياسة الإقصاء على الجنود المسيحيين فقط، بل تشمل أيضاً الجنود من الديانات الأخرى. يُعتبر الجنود من الطائفة الدرزية، الذين يخدمون في الجيش بموجب قانون التجنيد الإلزامي، من أكثر الفئات تعرضاً للتهميش داخل الجيش. ورغم أن العديد منهم قد ضحى بحياته في سبيل الدفاع عن إسرائيل، إلا أن حقوقهم تُنتهك بشكل مستمر، سواء أثناء خدمتهم أو بعد وفاتهم. تشير التقارير إلى أن الجنود الدروز والمسلمين والمسيحيين غالباً ما يُستخدمون في الصفوف الأمامية للمعارك، حيث يكونون عرضة للخطر بشكل أكبر مقارنة بزملائهم اليهود. ويُنظر إليهم أحياناً كأدوات لتحقيق أهداف الدولة، بدلاً من اعتبارهم شركاء متساوين في الدفاع عن الوطن. انعكاسات هذه السياسات على المجتمع الإسرائيلي إسرائيل، التي تقدم نفسها كدولة ديمقراطية متقدمة تحترم حقوق الإنسان، تجد نفسها في مواجهة تناقضات داخلية. فمن جهة، تروج لعقيدة التجنيد الشامل والدفاع عن الوطن كمسؤولية مشتركة بين جميع المواطنين، ومن جهة أخرى، تهمش وتقصي الجنود الذين لا يتبعون الديانة اليهودية. إن الطريقة التي تم التعامل بها مع قضية دافيد بوغدنوفسكي تبرز هذا التناقض بشكل صارخ. فبدلاً من تكريم ذكراه والاعتراف بتضحيته، تم التعامل معه ومع عائلته ببرود قاسٍ، يعكس العقلية العسكرية التي تهتم بتحقيق الأهداف بغض النظر عن التكلفة الإنسانية.
ختاماً؛ تشكل قصة الجندي المسيحي دافيد بوغدنوفسكي رمزاً صارخاً للتمييز والإهمال الذي يتعرض له الجنود غير اليهود في الجيش الإسرائيلي. ورغم التضحيات الكبيرة التي يقدمها هؤلاء الجنود، إلا أن الدولة التي يدافعون عنها تُظهر عدم احترام واضح لعقائدهم وحقوقهم. إن هذه العقيدة العسكرية الإسرائيلية، التي تضع الأهداف الاستراتيجية فوق الإنسانية، تثير تساؤلات حول القيم التي تقوم عليها الدولة، وحول مدى استدامة نظام يهمش جزءاً من مواطنيه ويستخدمهم كأدوات لتحقيق مصالحه.