الفساد في المنافذ الجمركية المصرية يُعد واحدًا من أكبر التحديات التي تعيق الاقتصاد المصري وتزيد من معاناة المواطنين.
وفي ظل حكم رئيس الانقلاب عبد الفتاح السيسي، أصبحت هذه الظاهرة أداة جديدة لترسيخ الفساد المستشري في الدولة، حيث يتم استخدام المناصب الرسمية لتحقيق مصالح خاصة على حساب الاقتصاد الوطني ورفاهية الشعب.
محاكمة مسؤولين حكوميين مؤخراً بتهم التورط في التهريب الجمركي تسلط الضوء على عمق الفساد المتفشي داخل منظومة الجمارك المصرية، وتثير تساؤلات حول مدى الجدية في محاربة هذه الآفة التي تستنزف موارد البلاد.

الفساد الجمركي.. واجهة لأزمة أعمق
يعد الفساد الجمركي أحد أشكال الفساد المؤسسي المتفشي في أجهزة الدولة المصرية، والذي يتجسد في التلاعب بالفواتير الجمركية، وقبول الرشاوى، والتعاون مع شبكات تهريب محلية ودولية لإدخال سلع دون دفع الرسوم المستحقة.
هذه الممارسات تؤدي إلى إهدار مليارات الجنيهات سنوياً، وتُعزز من سيطرة النخب الفاسدة على مصادر الثروة، فبدلاً من أن تكون الدولة حامية للاقتصاد ومنظمة للأسواق، أصبحت تلك المنافذ أدوات للاغتناء الشخصي لعدد من المسؤولين المرتبطين بشبكات الفساد.

تُظهر التقارير الحكومية الرسمية وبعض الشهادات المستقلة أن الفساد في الموانئ المصرية يُدار بالتنسيق مع عناصر أمنية واقتصادية داخل النظام.
هذه العناصر تتغاضى عن التهريب والفساد، بل وتشارك فيه أحيانًا، ما يخلق بيئة من الإفلات من العقاب.
ويستغل المهربون والمستوردون غير الشرعيين هذه الثغرات لتحقيق أرباح طائلة، في الوقت الذي يعاني فيه المواطن العادي من ارتفاع الأسعار وتراجع الخدمات.

محاكمة المسؤولين: خطوة شكلية أم بداية حقيقية؟
في الأسابيع الأخيرة، أثارت قضية محاكمة عدد من المسؤولين في قطاع الجمارك بتهم تتعلق بتسهيل التهريب الجمركي جدلاً واسعاً حول مدى تورط المسؤولين في عمليات تهريب منظمة.
التحقيقات كشفت أن هؤلاء المسؤولون ساهموا في تهريب بضائع محظورة أو ذات قيمة عالية دون دفع الرسوم الجمركية المستحقة، مما أدى إلى خسائر ضخمة في ميزانية الدولة.

هذه المحاكمة تفتح الباب أمام تساؤلات حول نية النظام الحقيقية في محاربة الفساد، فعلى الرغم من جهود الحكومة المعلنة لمكافحة الفساد، هناك شكوك حول ما إذا كانت هذه المحاكمة هي مجرد خطوة شكلية لتهدئة الرأي العام، أو إذا كانت الحكومة جادة في القضاء على هذه الظاهرة التي نخرت في جذور الاقتصاد.
يبقى السؤال الرئيسي: هل سيتوقف الفساد عند هذا الحد، أم أن هذه القضية ستنتهي كما انتهت قضايا أخرى، بمحاسبة بعض المسؤولين دون المساس بالبنية الفاسدة التي تديرها نخب النظام؟

الأثر الاقتصادي للفساد الجمركي
لا يقتصر تأثير الفساد الجمركي على خسائر مالية مباشرة، بل يتعدى ذلك إلى التأثير السلبي على قطاعات الاقتصاد المختلفة.
دخول سلع مهربة وغير خاضعة للرقابة يؤثر سلباً على المنتجين المحليين الذين لا يستطيعون منافسة الأسعار المنخفضة للسلع المهربة، هذا الأمر يؤدي إلى تدهور الصناعة المحلية وزيادة البطالة، حيث تجد الشركات الصغيرة والمتوسطة نفسها غير قادرة على مواكبة الأسعار التي تفرضها السوق السوداء.

علاوة على ذلك، يؤدي تهريب السلع ذات الجودة الرديئة أو الممنوعة إلى تعريض حياة المواطنين للخطر، خاصة إذا كانت تلك السلع غير مطابقة للمواصفات الصحية أو البيئية. كل هذا يتم بتواطؤ من المسؤولين الذين يُفترض بهم حماية الدولة ومواطنيها، مما يزيد من الإحساس بالظلم وغياب العدالة.

جهود الحكومة: هل هي كافية؟
رغم إعلان الحكومة عن سلسلة من الإصلاحات والإجراءات لمكافحة الفساد الجمركي، مثل تشديد الرقابة وتطوير نظم آلية لمراقبة المنافذ، فإن الفساد ما زال مستشريًا.
أحد التحديات الرئيسية يكمن في عمق الفساد داخل المؤسسات ذاتها، حيث يعمد بعض المسؤولين إلى استخدام مناصبهم لتحقيق مكاسب شخصية، مما يجعل من الصعب كبح جماح التهريب دون إصلاح شامل للنظام.

وتظل هذه الجهود قاصرة في غياب إرادة سياسية حقيقية لإحداث تغيير جذري في هيكل النظام
هناك حاجة إلى تفعيل قوانين أكثر صرامة لمحاسبة الفاسدين ومنع تكرار مثل هذه الممارسات، ولكن بدون فصل حقيقي بين السلطات واستقلال القضاء، قد تبقى هذه القوانين مجرد شعارات.

الحاجة إلى التغيير
في ظل تفاقم الأوضاع الاقتصادية وزيادة الضغوط على المواطنين بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة، لا يمكن استمرار الفساد الجمركي دون أن يؤدي إلى نتائج كارثية.
ومع استمرار النظام في تفضيل مصالح النخب على مصالح الشعب، ستظل المشكلات الاقتصادية قائمة وستزداد تفاقماً.

القضاء على الفساد الجمركي يتطلب أولاً القضاء على الفساد المؤسسي الذي يحكم مصر، فلا يمكن لأي إصلاحات اقتصادية أن تنجح دون وضع حد لتلك الممارسات التي تؤدي إلى استنزاف موارد الدولة وإفقار الشعب.
وفي ظل استمرار النظام الحالي في تجاهل هذه الحقيقة، فإن المستقبل يبدو غامضاً، حيث ستظل مصر تعاني من تداعيات هذا الفساد المدمر الذي يتغلغل في كل مفاصل الدولة.

في النهاية، تظل قضية الفساد الجمركي أحد مظاهر فساد النظام ككل. إنها ليست مجرد مسألة تهريب سلع، بل جزء من منظومة أوسع تتعلق بكيفية إدارة الدولة لمواردها وحمايتها لمصالح مواطنيها.