على مدار السنوات الأخيرة، واجه النظام المصري بقيادة رئيس الانقلاب عبد الفتاح السيسي انتقادات دولية حادة بسبب سجل مصر السيئ في مجال حقوق الإنسان، والذي يشمل قمع المعارضة السياسية، تقييد الحريات، واعتقال عشرات الآلاف من السياسيين والصحفيين والنشطاء. ورغم هذا السجل المتدهور، تمكن السيسي من استخدام دوره في الوساطة بين إسرائيل وحماس لتعزيز مكانته الدولية وإعادة تسليط الضوء على دوره الإقليمي، في حين تراجعت الضغوط الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان. وساطة القاهرة في حرب غزة: تعزيز النفوذ الإقليمي مع اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس في أكتوبر 2023، سارع السيسي لاستغلال الأزمة لتقديم مصر كوسيط رئيسي بين الطرفين. بفضل معبر رفح الذي يربط مصر بقطاع غزة، باتت القاهرة الوجهة الأساسية للدبلوماسيين الدوليين الباحثين عن حلول للأزمة الإنسانية، والإفراج عن الرهائن الإسرائيليين. أصبح التنسيق المصري مع الولايات المتحدة وإسرائيل ضرورة في إدارة الصراع، مما منح السيسي فرصة لا تُقدر بثمن لتعزيز مكانته الإقليمية. في هذا السياق، قال كريستيان أخرينر، الباحث في جامعة روسكيلد الدنماركية، إن "مصر استعادت دورها في المنطقة كوسيط مؤثر"، مشيرًا إلى أن هذا الدور أسهم في إسكات الأصوات المنتقدة لانتهاكات حقوق الإنسان في مصر. فبينما كان على السيسي التعامل مع الانتقادات الموجهة إلى نظامه بسبب القمع الداخلي، ساعدت الحرب على إبراز أهميته الاستراتيجية على الساحة الدولية، مما دفع بعض الحكومات إلى غض الطرف عن سجل مصر الحقوقي السيئ. الولايات المتحدة وأوروبا: المصالح أولاً لم يكن الدور المصري في الحرب دون مكافآت ملموسة. فقد حصلت القاهرة على دعم إضافي من واشنطن، بما في ذلك 1.3 مليار دولار من المساعدات العسكرية. وقد لوحظ تراجع في اشتراطات حقوق الإنسان التي كانت تُفرض في الماضي على المساعدات العسكرية الأمريكية. وعلق تيموثي إي كالداس، نائب مدير "معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط"، قائلاً: "في السابق، كانت الولايات المتحدة تعلق جزءًا من المساعدات بسبب انتهاكات حقوق الإنسان، لكن هذا الشرط تلاشى الآن لصالح الحفاظ على تعاون مصر مع إسرائيل". وفي حين أكد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أن مصر تحقق تقدمًا في مجال حقوق الإنسان، شكك كالداس في ذلك، مشيرًا إلى أن أعداد السجناء السياسيين في مصر تفوق بكثير أعداد المفرج عنهم. هذا التضليل، وفقًا لكالداس، يعكس الأولوية التي تُمنح للتعاون الأمني والعسكري مع مصر على حساب تحسين أوضاع حقوق الإنسان. استغلال السيسي للأزمة: تكميم الأفواه وقمع المعارضة على الصعيد الداخلي، استغل السيسي تصاعد الأزمة في غزة لتكثيف حملته القمعية ضد المعارضة. مع انشغال العالم بالصراع في غزة، تكفلت الأجهزة الأمنية المصرية بإسكات أي انتقادات داخلية. فعلى الرغم من تعاطف الشعب المصري العميق مع الفلسطينيين، فإن النظام الحاكم واصل تعاونه الوثيق مع إسرائيل في ظل معاهدة السلام التي وُقعت بين البلدين عام 1979. ورغم الاحتجاجات الشعبية المستمرة على معاهدة السلام، حافظ السيسي على علاقاته القوية مع الولايات المتحدة وإسرائيل، مما جعله شريكًا لا غنى عنه في إدارة الصراع. وفي ظل هذه الظروف، أضحى من الأسهل على النظام المصري تبرير إجراءات القمع، حيث يصور نفسه كحصن ضد الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة. السجناء السياسيون بين التجاهل الدولي والاستغلال المحلي من أبرز الأمثلة على استغلال النظام المصري للأزمة هو قضية السجناء السياسيين، مثل الناشط البارز علاء عبد الفتاح، الذي لا يزال يقبع في السجن رغم انتهاء مدة حكمه. بينما تشير التقارير الحقوقية إلى وجود أكثر من 70 ألف معتقل سياسي في مصر، تراجعت الضغوط الدولية لإطلاق سراح هؤلاء المعتقلين نتيجة انشغال المجتمع الدولي بالصراعات الإقليمية. من جهة أخرى، يرى مراقبون أن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قد يكون الفرصة الأخيرة للمعتقلين السياسيين في مصر. في يناير 2025، سيكون على الحكومة المصرية تقديم تقرير عن التقدم المحرز في مجال حقوق الإنسان، إلا أن التوقعات تشير إلى أن النظام سيواصل استغلال الأزمات الإقليمية لتجنب المحاسبة. الأوضاع الاقتصادية: أزمة تتفاقم ومساعدات لا تصل رغم المكاسب السياسية التي حققها السيسي من خلال وساطته في الصراع، لا تزال الأوضاع الاقتصادية في مصر تتدهور. يعاني ثلث سكان مصر من الفقر، في حين تستمر معدلات التضخم بالارتفاع بشكل كبير، حيث بلغت أسعار المواد الغذائية الأساسية زيادات تتجاوز 70%. ورغم تلقي القاهرة مساعدات مالية ضخمة من البنك الدولي ودول الخليج، فإن معظم هذه المساعدات لم تصل إلى الفئات الأكثر حاجة، بل تركزت في مشاريع تصب في مصلحة النخبة الحاكمة. الخلاصة: مصالح السيسي فوق حقوق الإنسان
في النهاية، يمكن القول إن السيسي نجح في استخدام الحرب بين إسرائيل وحماس لتعزيز مكانته الإقليمية والدولية، مستغلاً حاجة القوى العالمية لدوره كوسيط. وفي المقابل، تراجعت الضغوط الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان في مصر، مما سمح للنظام بتكثيف حملاته القمعية وتجاهل المطالب الشعبية بتحسين الأوضاع الداخلية. وبينما تستمر الأزمات الاقتصادية في الضغط على المواطنين، يبقى النظام متمسكًا بأولوياته السياسية والأمنية على حساب حقوق الإنسان.