سيطرت على قادة الاحتلال حالة من النشوة والزهو بعد الإنجازات العسكرية السريعة على الساحة اللبنانية، واستطاع الجيش الإسرائيلي اغتيال عدد كبير من القادة العسكريين والسياسيين لحزب الله على رأسهم حسن نصر الله الأمين العام، مما جعل نتنياهو يقفز في الهواء بعيدا بالحديث عن تغيير الخرائط في الشرق الأوسط!

في الوقت الذي مازالت الصواريخ تنهمر فيه على الكيان الصهيوني ويختبيء ملايين الإسرائيليين في الملاجيء وتدوي صفارات الإنذار يوميا في الشمال والوسط والجنوب حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي استغلال منصة الأمم المتحدة لإعلان انتصار لم يتحقق، وأرسل التهديدات في كل اتجاه.

يظن نتنياهو أن الاغتيالات والقصف الجوي يحقق له الانتصار المستحيل الذي يحلم به بالليل والنهار، ويتصور أن مشاهد الدخان المتصاعد في غزة وبيروت واليمن من القصف بسلاح الجو يردع الجبهة المقابلة، ويخيف المحيط العربي والإسلامي ويعيد الردع الصهيوني الضائع منذ بداية طوفان الأقصى.

لم تستمر الأفراح في الكيان الصهيوني بمقتل حسن نصر الله لأكثر من يوم واحد، حيث واصلت قوات حزب الله قصف العديد من المستوطنات والأهداف العسكرية الإسرائيلية، بل وبسبب صاروخ باليستي واحد على حيفا دخل مليون إسرائيلي إلى المخابيء، ونفس الرعب حدث من صاروخ يمني أطلق على تل أبيب، وتبخر الشعور الكاذب الذي عاشه الإسرائيليون بضع ساعات.

 

لا تغيير لصالح الاحتلال

الحروب جولات، يوم لك ويوم عليك، والخسارة التي لا تكسر الظهر تقويه، ولا ننسى أن توجه نتنياهو إلى لبنان جاء بعد عجزه وفشله في تحقيق أي إنجاز في غزة، رغم القتل والدمار الذي تعرض لها القطاع، فالصمود الفلسطيني أفشل كل خطط الاحتلال وتسبب في تصدع جبهة الكيان الداخلية ونقل المعركة إلى الداخل الإسرائيلي.

نجاح الاحتلال في اختراق جهاز الاتصالات لحزب الله مكنه من تحقيق ضربات مؤثرة وخسارة معظم قادة الحزب البارزين لكن بقيت البنية العسكرية بعيدة عن الرصد والقصف، ولهذا لم تتوقف عمليات الهجوم اللبنانية المبرمجة بالصواريخ والمسيرات على الداخل الإسرائيلي، وهذا ما جعل نتنياهو يصرح في اليوم التالي من عودته من الولايات المتحدة بأن “تحديات صعبة تنتظر الإسرائيليين”!

في تأكيد على أن حزب الله لم يتفكك ولم يتدمر كما يروج الإسرائيليون خرج نعيم قاسم نائب الأمين العام لحزب الله في أول ظهور بعد اغتيالات بيروت في  فيديو مسجل، وأكد أن القدرات العسكرية لم تمس، وأشار إلى أن الحزب متماسك وتم إحلال البدائل في كل المواقع، وصرح بأن اختيار أمين عام جديد للحزب سيتم فيما بعد، وتعهد بمواصلة القتال وفق الأهداف الموضوعة ولا تغيير في الخطط ، وقال إن الحزب ” لن يتزحزح قيد أنملة عن مواقفه”.

 

نتنياهو يندفع نحو الانتحار

يحاول نتنياهو تدمير لبنان بذات الطريقة التي فعلها في غزة، يقصف المدنيين ويزعم أنه يضرب أهدافا عسكرية ومنصات الصواريخ، ويستخدم القنابل لتدمير البنايات ويدعي أنه يقتل أعضاء حزب الله، ويصدر الجيش الإسرائيلي أوامر بإخلاء أحياء بكاملها، ويطالب السكان بالابتعاد ليزيد من الخوف ويدفعهم للنزوح، ويتعمد استخدام قنابل ثقيلة، تولد الدخان الكثيف وتثير الغبار الأحمر لاستعادة الردع الذي ذهب ولن يعود.

ربما استعاد نتنياهو بعض الشعبية من الجمهور الإسرائيلي المعتطش للدماء، الذين أعماهم الفرح بعد تغييب حسن نصر الله، وظنوا أن معركة لبنان حسمت بينما هم في بدايتها، فالحقيقة أن القصف الجنوني للقرى والمدن لن يحقق ما يحلم به نتنياهو من استسلام حزب الله وإلقاء السلاح والانسحاب حتى نهر الليطاني، بل سيزيد الصمود أكثر وتشعل روح الثأر والرغبة في الانتقام، وحتى لو دخل الاحتلال بريا فلن يتحسن الموقف الصهيوني بل سيدفع الثمن غاليا كما دفعه في حرب عام 2006.

كلمة نتنياهو في الأمم المتحدة تؤكد أنه في حالة نفسية سيئة، فقد هدد دول العالم التي لا تقف مع إسرائيل ووصف قادتها بأنهم لا يفهمون، ووصف الأمم المتحدة بأنها “بيت الظلام “الذي يعادي السامية، واتهم مظاهرات الاحتجاج التي استقبلته خارج القاعة التي ألقى فيها خطابه بأنها ممولة من إيران!

عندما رفع نتنياهو الخريطتين عن “تحالف النعمة” و”تحالف النقمة” وصورة الشرق الأوسط الجديد، خلت القاعة من ممثلي الدول التي يدعي أنها ستشاركه في مشروعاته لحكم المنطقة العربية بعد الانتهاء من تدمير غزة وسفك دماء الفلسطينيين والعرب، ولم يصفق له غير الوفد الإسرائيلي والفرقة المستأجرة التي جاء بها للتصفيق له!

لقد رأينا مجرم الحرب المتهم بممارسة الإبادة الجماعية يتحدث عن السلام، وأن إسرائيل تحارب أهل الشر وتدافع عن الحضارة، وأن الإسرائيليين يدافعون عن أنفسهم ضد الإبادة، وحاول إبعاد الأنظار عن محور الصراع الحقيقي وهو المسجد الأقصى والقدس وفلسطين بالحديث عن خطر إيران ومشروعها النووي، واتهم الغرب بالتردد، وأنه هو الذي سيتولى تدمير هذا المشروع، وقال متوعدا: “لا يوجد مكان في إيران لا تستطيع الذراع الطويلة لإسرائيل الوصول إليه. والأمر ينطبق على الشرق الأوسط بأكمله”.

عندما يهدد نتنياهو الشرق الأوسط بأكمله فهو يقر بأن “تحالف النعمة” الذي تحدث عنه مجرد كلام غير حقيقي وإلا فلماذا يهدد الجميع؟ هو يعلم أنه بعد جرائم الإبادة لن يجرؤ أي زعيم عربي من الذين تورطوا في التطبيع الإسرائيلي في المشاركة في أي تعاون مستقبلي مع الكيان العدواني، فالشعوب المقموعة الآن بالحديد والنار أنضجتها المجازر ولن ترحم من يشارك رئيس الوزراء الصهيوني.

 

إيران هي الهدف التالي حتى وإن لم ترد

لن يستطيع نتنياهو تحقيق شيء في لبنان، ومهما فعل من تدمير وقتل فلن يكسب الحرب، وستكون الخسارة أكثر فداحة؛ فالترسانة الصاروخية والقذائف المسيرة التي يمتلكها حزب الله ستفضح نتنياهو أمام الإسرائيليين وستعيد لهم صوابهم. فبعد عام من الخسائر والمعاناة في غزة مطلوب منهم تحمل عام آخر مع هجوم أكثر ضراوة من عدة جبهات، وتحمل انتقام متنامٍ جراء ما تفعله آلة القتل الإسرائيلية بدون تحقيق أي إنجازات، لا على المدى القريب ولا البعيد.

لن ينتظر نتنياهو في لبنان حتى الوصول إلى ذات النتيجة التي تحققت في غزة وهي الخسارة وفشل خططه الخيالية والساذجة، فجيشه المنهك تصدع، ولن يحتمل الاستنزاف لمدة طويلة، وقد رأينا جزءا من هذه الصراعات قبل اغتيالات بيروت، ومن المتوقع أن يبدأ الاحتلال بالهجوم على إيران، حتى لو لم تبادر إيران بالرد الذي طال انتظاره، لتحقيق صورة انتصار، وإنجاز الهدف الاستراتيجي وهو ضرب المشروع النووي.

إشارات عديدة تؤكد أن إيران هي الهدف القريب، آخرها كلمة نتنياهو التي وجهها إلى الشعب الإيراني، وطالبهم بالتخلص من النظام الذي يحكمهم، وقال لهم: “إسرائيل تقف إلى جانبكم”، وقد اعتاد على ترديد مثل هذه الكلمات قبل كل عدوان، متوهما أن قتل القيادات وضرب الهيكل الإداري والعصب العسكري يتسبب في فوضى تطيح بخصومه، ويفضح الحشد العسكري الأمريكي المتصاعد بالمنطقة النوايا المبيتة وما يدبر ويحاك.

الأمريكيون الذين يشاركون نتنياهو في حروبه، ويقدمون له كل الدعم المخابراتي والسياسي والعسكري بدؤوا يروجون لمقولة: “عدم علمهم المسبق” بكل هجوم يقوم به نتنياهو يمس إيران، حتى يجعلوا بينهم وبين الإسرائيليين مسافة، ولا يتعرضون للردود الانتقامية، خاصة أن إيران لديها القدرة على ضرب القواعد الأمريكية بمنطقة الخليج، وتستطيع وقف الملاحة العالمية في هرمز وباب المندب والمحيط الهندي، ولهذا يكرر الأمريكيون بإلحاح رفضهم لما يسمى بـ “الحرب الشاملة”، وأنهم ضد التصعيد مع إيران!

مهما فعل نتنياهو وحتى لو دخل في حروب لا نهائية، مع كل المحيط العربي والإسلامي، فإن الحلم باستعادة الردع لن يتحقق، وإزالة التهديد هدف بعيد المنال، ولن يجني الإسرائيليون غير المزيد من الرعب والخوف، ولن ينقذهم من الاستنزاف غير القبول بوقف الحرب على غزة والتعايش مع الواقع الجديد والاقتناع – تحت الإكراه-  بأن فكرة إبادة الآخر من ميراث الماضي الذي لا يمكن استنساخه أو تكراره.