اشتعل الجدل مجدداً حول قضية المقابر التاريخية والتراثية وعادت تلك القضية لتطل برأسها من جديد وتطفو على السطح مرة أخرى، عقب تلقي بعض ورثة المقابر الكائنة في منطقة الإمام الشافعي والسيدة نفيسة إخطاراً من محافظة القاهرة خلال الأيام القليلة الماضية يفيد بإيقاف عملية الدفن بالمقابر تمهيداً لإزالتها.

وأظهر خطاباً منسوباً لمحافظة القاهرة، بتاريخ الثاني من أبريل، يفيد بأنه "يتم إيقاف الدفن في المقابر والمدافن الواقعة في نطاق محور صلاح سالم البديل مع نقل الرفات إلى مدافن التعويضات بالعاشر من رمضان تمهيداً لإزالتها، على أن تتولى إدارة الجبانات التنسيق مع حي الخليفة في شأن قيامه بأعمال الإزالة المشار إليها وعلى مديرية الشؤون الصحية تسهيل استخراج تصاريح نقل الرفات للمدافن الواقعة في نطاق الإزالة".

مطالب بالحفاظ على الجبانات التراثية (أ ب)
وما لبث أن ظهر الخطاب حتى تجددت صيحات ورثة المقابر التاريخية والتراثية الرافضين لقرارات الهدم والإزالة، مدعومة بحملات من رواد منصات التواصل الاجتماعي وعدد من المثقفين، الذين طالبوا بضرورة الحفاظ على القيمة والمكانة التاريخية لتلك المقابر وعدم المساس بتلك الجبانات التراثية.

وكانت مصر شهدت في منتصف العام الماضي، موجة من الاستياء والغضب الواسع إثر تحركات الحكومة المصرية لهدم بعض المقابر التراثية والتاريخية، عبر عنها أصحاب تلك المقابر، ودعمتها بعض الأقلام والكتابات الصحافية لمثقفين وشخصيات عامة بارزة في مصر أعربوا عن رفضهم هدم المقابر التاريخية ونقل رفات الموتى، للمطالبة بالتراجع عن هدم المقابر التاريخية والبحث عن بدائل أخرى يمكن من خلالها الاستفادة بتلك المنطقة كمزار سياحي.

صدمة القرار
بصوت متهدج وبكلمات لا تخلو من الحسرة والألم، تقول قمرية حسن مراد حفيدة الشاعر الراحل محمود سامي البارودي إنها تعيش حالياً لحظات صعبة وقاسية منذ علمها بنبأ إزالة المقبرة، موضحة أنها فوجئت منذ أربعة أيام بتلقي "تربي" (الشخص الذي يقوم بمهام دفن الموتى) منطقة الإمام الشافعي التي يوجد بها المقبرة، خطاباً من محافظة القاهرة يفيد بإيقاف الدفن تمهيداً لإزالة المقابر، على عكس الوعود التي سبق وتلقاها أصحاب المقابر من الجهات الرسمية خلال الفترة الماضية.


قبر الشاعر الراحل محمود سامي البارودي (مواقع التواصل)
وأردفت حفيدة البارودي خلال حديثها "ذهبت بنفسي للمقبرة للتأكد من حقيقة تلك المعلومات على أرض الواقع وتبين قيام المسؤولين بوضع علامات (إكس حمراء) على مقبرة جدي الكائنة في شارع ابن الفارض بمقابر الإمام الشافعي والمقامة على مساحة 900 متر".

وتساءلت قمرية لماذا هذا الإصرار على إهدار قيمة التاريخ وهدم مقبرة تاريخية يعود تاريخ إنشائها لأكثر من 150 عاماً؟ موضحة أنها تشعر بصدمة كبيرة جراء استمرار تلك المحاولات من الجهات الرسمية الراغبة في الهدم والإزالة لتلك الأماكن التاريخية.

وتضيف حفيدة البارودي أنها طرقت جميع أبواب المسؤولين بالدولة من أجل إثنائهم عن هذا الأمر ولكن دون جدوى، مشيرة إلى أنه لم يتواصل معها أي مسؤول في وزارة أو محافظة لإبلاغها رسمياً بقرار الإزالة للمقبرة.

 
محافظة القاهرة ستسأنف الهدم
لم تخف حفيدة البارودي شعورها باليأس والإحباط بعد تجدد محاولات الهدم والإزالة، قائلة "لم يعد أمامي شيء أفعله وأتوقع أن يتم إزالة المقبرة قريباً في ظل تمسك المسؤولين وإصرارهم على الهدم ونقل الرفات على رغم تعهدات المسؤولين والجهات الرسمية طوال الفترة الماضية بعدم المساس بتلك المقابر التاريخية".

يشار إلى أن عبدالفتاح السيسي أكد في تصريحات له في سبتمبر 2022، على هامش تفقده الأعمال الإنشائية الخاصة بتطوير عدد من الطرق والمحاور في القاهرة الكبرى، أن القائمين على العمل في الطرق والمحاور التي يجري تنفيذها حريصون على عدم المساس نهائياً بأي مناطق أثرية أو مقابر، مشيراً إلى أن العمل في هذه الطرق والمحاور يهدف إلى تحقيق أقصى درجات الانسيابية في حركة المرور بصفة عامة، مردفاً "لا يمكن أبداً المساس بأي مناطق فيها مقابر لشخصيات نقدرها ونحترمها أو مناطق أثرية، وإذا وجدت مقابر أو مناطق أثرية في خط سير العمل، نعالج ونتلافى ذلك بإنشاء كباري، للحفاظ على تلك المقابر والمناطق الأثرية".

وفي منتصف يونيو من العام الماضي، وجه السيسي بإنشاء "مقبرة الخالدين" في موقع مناسب، لتكون صرحاً يضم رفات عظماء ورموز مصر من ذوي الإسهامات البارزة في رفعة الوطن، وأن تتضمن متحفاً للأعمال الفنية والأثرية الموجودة في المقابر الحالية، وتشكيل لجنة برئاسة رئيس مجلس الوزراء، تضم جميع الجهات المعنية والأثريين المتخصصين والمكاتب الاستشارية الهندسية، لتقييم الموقف في شأن نقل المقابر بمنطقة السيدة نفيسة والإمام الشافعي.
وسبق وأصدرت الحكومة بياناً في الـ30 من مايو من العام الماضي، أكدت خلاله أنه لا صحة لتنفيذ حملة شاملة لهدم مقابر أثرية، مشددة على أن جميع المقابر الأثرية قائمة كما هي، ولا يمكن المساس بها، فهي تخضع لقانون حماية الآثار رقم 117 لسنة 1983، والذي يجرم أي عمل يتلف أو يهدم أثراً، مؤكدة حرص الدولة على الحفاظ على الآثار بجميع أنواعها وأشكالها، ليس فحسب للأجيال القادمة لكن للإنسانية جمعاء.


محاولات لن تفلح
حال وحيد المارديللي، حفيد الأمير محمد فاضل باشا الدرمللي مفتش عام الصعيد وحاكم قنا لمدة 20 عاماً، لا يختلف كثيراً عن حفيدة البارودي، إذ يعيش حالة من الصدمة منذ علمه بخبر الهدم للمقبرة التي يعود تاريخ إنشائها لعام 1868.

ووفقاً لـ"المارديللي"، "قبل انتخابات الرئاسة الماضية سمح لنا بالدفن في المقابر لذلك قمت بإنفاق 500 ألف جنيه لتطوير المقبرة التي تبلغ مساحتها 1700 متر وإزالة المياه الجوفية منها وزراعة 600 شجرة، ولكن فوجئت خلال الأيام القليلة الماضية بتلقي التربي الذي يتبع لإدارة الجبانات بمحافظة القاهرة خطاباً من المحافظة يفيد بعدم الدفن ويعرض علي إزالة الرفات مقابل منحنا أحد الأحواش".

يشير حفيد محمد فاضل باشا الدرمللي إلى أن صدمته الكبرى تكمن في أن مقبرة جده تتبع لجهاز التنسيق الحضاري باعتبارها إحدى المقابر التراثية ذات الشأن ولها قيمة ومكانة تاريخية، ويجب ألا يتم المساس بها، متسائلاً "كيف يتم المساس بمقبرة تتبع للتنسيق الحضاري ويعلم الجميع مدى أهميتها وقيمتها وينبغي الحفاظ عليها، ولمصلحة من يحدث هذا؟".

"أعتقد أن حملة ورثة المقابر التاريخية والتراثية لن تفلح تلك المرة مثلما نجحت في الفترة السابقة، بخاصة في ظل تمسك المسؤولين بالهدم، ونعلم أننا لن نستطيع إيقاف معاول الهدم أو الوقوف أمام الجرافات تلك المرة"، وفقاً لـ"المارديللي".

اللجوء للقضاء
لم تسلم أيضاً مقبرة محمد محمود باشا رئيس وزراء مصر الأسبق، الكائنة في منطقة الإمام الشافعي على مساحة 400 متر من قرارات الهدم والإزالة، إذ يقول حفيده محمد محمد همام إنه أبلغ من تربي المنطقة بإزالة المدفن، مشيراً إلى أن أحد مهندسي محافظة القاهرة حضر إلى المنطقة وأكده أنه سيتم إزالة مدفن جده من أجل عمل توسعات، قائلاً "لم يصل إلينا أي إخطار كتابي بالهدم، ولكن تم إبلاغنا شفهياً بالقرار، وهو نفس ما حدث مع عدد من ورثة المقابر المجاورة لنا في نفس المنطقة".