في ظل تفاقم أزمة الغاز في مصر، تظل الحكومة عاجزة عن إيجاد حلول محلية مستدامة للتغلب على هذا التحدي، مما يدفعها إلى الاعتماد بشكل كبير على الاستيراد لتلبية احتياجات السوق المحلي. وبينما يسعى المواطنون إلى التكيف مع الزيادات المتواصلة في أسعار الغاز، تستمر الديون في التراكم، حيث تتحمل الطبقات المتوسطة والفقيرة العبء الأكبر من هذا الواقع الصعب. تاريخ الأزمة وتفاقم الوضع تعود جذور أزمة الغاز في مصر إلى عدة عوامل، منها السياسات الاقتصادية التي تبنتها الحكومة منذ عام 2016، حيث بدأت في تحرير تدريجي لأسعار الوقود والطاقة بالتزامن مع الحصول على شرائح من قروض صندوق النقد الدولي. ورافقت هذه السياسات زيادات كبيرة في أسعار الغاز للاستخدام المنزلي والتجاري، مما أدى إلى مضاعفة الأسعار عدة مرات خلال السنوات الأخيرة. أحد أبرز الأسباب لتفاقم الأزمة هو تراجع إنتاج الغاز المحلي، رغم اكتشافات الحقول الجديدة مثل "ظهر"، الذي كان من المفترض أن يحقق لمصر الاكتفاء الذاتي. غير أن الإنتاج لم يكن كافيًا لتلبية الطلب المحلي المتزايد، مما دفع الحكومة إلى استيراد الغاز من الخارج، وهو ما جعل البلاد عرضة للتقلبات العالمية في أسعار الطاقة. الحكومة والاعتماد على الاستيراد قال مسؤول حكومي مصري إن بلاده استوردت شحنات وقود بقيمة بلغت نحو 9.3 مليار دولار خلال الـ 8 أشهر الأولى من العام 2024، مقابل 8.3 مليار دولار في ذات الفترة من العام الماضي، أي بزيادة بلغت نحو 12%. أضاف المسؤول أن الهيئة المصرية العامة للبترول تعاقدت على استيراد شحنات مواد بترولية بقيمة 1.35 مليار دولار خلال أغسطس الماضي، مقابل 945 مليون دولار في الشهر المماثل من العام 2023. في ظل هذه التحديات، لجأت الحكومة المصرية إلى استيراد الغاز بكميات كبيرة، وهو ما ساهم في تفاقم أزمة المديونية التي تعاني منها البلاد. مع ارتفاع الأسعار العالمية للغاز الطبيعي، وجدت مصر نفسها مضطرة لدفع مبالغ طائلة لتأمين احتياجاتها المحلية. وفي هذا السياق، تعتمد الحكومة على استيراد الغاز المسال من دول مثل قطر والولايات المتحدة، الأمر الذي يزيد من تكلفة الغاز على الدولة والمواطنين على حد سواء. استيراد الغاز يعني تحميل الموازنة العامة للدولة عبءًا إضافيًا من العملة الصعبة، ما يفاقم أزمة الديون التي تعاني منها مصر منذ سنوات. وفي ظل تراجع قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار، تزداد كلفة الاستيراد، ما ينعكس بشكل مباشر على أسعار الغاز التي يتحملها المواطن. تحرير الدعم والديون المتراكمة منذ توقيع الحكومة المصرية اتفاقيات قروض مع صندوق النقد الدولي في عام 2016، اتبعت سياسات تهدف إلى تقليل الدعم الحكومي على السلع الأساسية، بما في ذلك الغاز. هذه السياسات جاءت في محاولة لتخفيف العبء على الموازنة العامة وتقليل عجزها، غير أن النتيجة كانت عكسية بالنسبة للمواطنين. فبدلاً من تحقيق استقرار اقتصادي، زادت الأعباء على كاهلهم، حيث ارتفعت الأسعار بشكل غير مسبوق، وتراجعت القدرة الشرائية بشكل ملحوظ. إلى جانب ذلك، تعاني مصر من مستويات عالية من الديون الخارجية والداخلية. ووفقًا لتقديرات رسمية، بلغ حجم الدين العام لمصر نحو 155 مليار دولار بنهاية عام 2023. وتستمر الديون في الارتفاع بسبب الحاجة المستمرة إلى الاقتراض لتغطية العجز في الميزانية ولتمويل استيراد الغاز. ونتيجة لذلك، يضطر المواطنون إلى تحمل تبعات هذه الديون من خلال زيادة الضرائب وارتفاع أسعار السلع والخدمات. زيادة الاعتماد على الاستيراد وتحرير الدعم يعني أن أسعار الغاز في مصر ستظل عرضة للتقلبات العالمية. ومع ارتفاع تكاليف الإنتاج والنقل، تستمر أسعار الغاز في الارتفاع بشكل مستمر، مما يؤدي إلى زيادة الأعباء الاقتصادية على الأسر المصرية. في المناطق الريفية، حيث يعتمد السكان بشكل كبير على أسطوانات الغاز للاستخدام المنزلي، أصبحت هذه الزيادات مصدر قلق يومي. فالأسرة التي كانت تشتري أسطوانة الغاز بسعر معقول في الماضي، أصبحت الآن تعاني من أسعار تتضاعف كل بضعة أشهر. وفي ظل تدني الأجور وارتفاع تكاليف المعيشة، يجد العديد من المصريين أنفسهم عاجزين عن تلبية احتياجاتهم الأساسية. على المستوى التجاري، تواجه القطاعات التي تعتمد على الغاز، مثل المطاعم والمخابز، تحديات كبيرة في ظل زيادة التكاليف التشغيلية. ومع ارتفاع أسعار الغاز، تجد هذه المؤسسات نفسها مضطرة إلى رفع أسعار منتجاتها، مما يؤدي إلى تأثيرات سلبية على الطلب ويؤدي إلى تراجع أرباحها. هذا الوضع يهدد بزيادة معدلات الإفلاس، خاصة بين الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تشكل العمود الفقري للاقتصاد المصري.
في ظل تفاقم أزمة الغاز، ظهرت دعوات متزايدة من الخبراء والمواطنين على حد سواء للحكومة للبحث عن حلول بديلة لتخفيف الاعتماد على الاستيراد وتقديم دعم ملموس للمواطنين. إحدى هذه الحلول المقترحة هي الاستثمار بشكل أكبر في الطاقات المتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، التي يمكن أن توفر بديلاً مستدامًا للطاقة وتخفف من الضغوط على استهلاك الغاز. بالإضافة إلى ذلك، هناك دعوات لتحسين كفاءة استهلاك الطاقة وتطوير البنية التحتية للتوزيع، بما يساهم في تقليل الفاقد وتحسين كفاءة استخدام الغاز في المنازل والمصانع. وعلى المستوى الاقتصادي، يرى البعض أن الحكومة بحاجة إلى إعادة النظر في سياساتها المالية، وتوجيه جزء أكبر من الدعم نحو الفئات الأكثر احتياجًا، بدلًا من تحرير الأسعار بشكل عشوائي. مستقبل الغاز في مصر مع استمرار الأزمة العالمية في أسعار الطاقة وتراجع الجنيه المصري، من المتوقع أن تظل مصر تواجه تحديات كبيرة في تأمين احتياجاتها من الغاز بأسعار معقولة. وفي ظل غياب حلول جذرية محلية، قد تجد الحكومة نفسها مضطرة إلى مواصلة استيراد الغاز وتحميل المواطنين عبء تلك التكلفة. ختامًا، تبدو أزمة الغاز في مصر جزءًا من أزمة اقتصادية أوسع تتطلب من الحكومة المصرية اتباع سياسات اقتصادية أكثر شمولية واستدامة. الاعتماد على الاستيراد لتحل أزمة الغاز هو حل قصير الأمد، لكن مع مرور الوقت، قد يؤدي إلى تفاقم المشاكل الاقتصادية والاجتماعية. تحتاج مصر إلى حلول مبتكرة تشمل استثمارات في الطاقة المتجددة وتطوير البنية التحتية، إلى جانب إعادة توزيع الدعم الحكومي بطريقة تضمن تخفيف الأعباء عن الفئات الأكثر تضررًا.

