أريد أن أكون طبيبًا أو أصبح مهندسًا.. أحلام وردية وطموحات شخصية راودت عقول البعض في عالم الطفولة، لكن الواقع يؤكد أن دخل بعض هذه الوظائف لا يتماشى مع واقع الغلاء الذي يزداد كل يوم في مصر، ومع تراجع قيمه الجنيه على حساب الدولار.

قصص كثيرة تحمل جوانب عديدة من معاناة أصحاب المهن الراقية الذين دفعتهم ظروف الحياة إلى تركها والبحث عن مهن أخرى ربما تكون أقل مجتمعيًا إلا أنها تدر عليهم دخلاً ماليًا أكبر.

يجلس علي عيد، الأب المسن، في مكان ابنه الطبيب بعيادة الأسنان التي جهزها له بكل مدخراته في منطقة فيصل بمحافظة الجيزة، وذلك بعدما هجر الابن عمله وبقيت لافتة مضيئة عليها الاسم والوظيفة فقط.

ويوضح الأب أن ابنه قام بـ”تحول وظيفي” وتحوّل إلى السمسرة والتسويق في إحدى شركات العقارات الدولية.

يحكي الطبيب الشاب عبد الرحمن كيف تراجع الحلم، موضحًا أن أعداد أطباء الأسنان فاقت التوقعات بسبب تضاعف الخريجين من الجامعات الخاصة مع تفاقم الظروف المعيشية للمرضى الذين باتوا يَعُدون علاج الأسنان ضمن قائمة الرفاهيات، وفقًا لـ"الجزيرة مباشر".

ويضيف عبد الرحمن “اخترت العقارات لأنها تدر ربحًا كبيرًا، إضافة إلى راتب حكومي لا يتجاوز 5 آلاف جنيه مقابل يوم عمل واحد أسبوعيًا بوحدة صحية نائية”.

وطبقا للنقابة العامة لأطباء الأسنان، فإن القطاع مهدَّد بالبطالة مع زيادة سنوية في عدد الأطباء تتجاوز 11%، بينما يصل عدد خريجي كليات طب الأسنان سنويًا إلى أكثر من 8 آلاف طبيب، لتصبح النسبة طبيبًا لكل 1500 نسمة، في حين أن النسبة العالمية هي طبيب لكل 7500 نسمة.

وعبر صفحتها على فيسبوك، تشكو الطبيبة الشابة ندى القاضي من إحباط مبكر، وتدعو الخريجين الجدد إلى النظر في “التحول الوظيفي من الآن”.

 

التحول إلى التوك توك

ولا تختلف رواية طبيب الأسنان كثيرًا عن ما يحكيه ربيع سعيد، المحاسب الذي ترك عمله بوزارة التنمية المحلية ليعمل سائق توك توك لتحسين ظروفه المعيشية.

ولا يتردد ربيع في التأكيد أن عمله الشاق لا يؤثر في وضعه الاجتماعي، موضحًا أنه شعر ببعض الضيق في البداية، لكن المكاسب التي حققها خففت الموقف عليه وعلى عائلته التي لا تزال معترضة على ما سمّته “الانزلاق الوظيفي”، ووصل الأمر إلى محاولة استدعاء طبيب نفسي.

ويربط أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة مصر للعلوم سمير بركات بين الـ”كارير شيفت” وشعور مكتوم بالإحباط وغياب الأمل نتيجة الأحوال المعيشية.

وقال بركات إن الكثيرين في مصر يعانون ضغوطًا نفسية متفاوتة، لكن أعدادًا قليلة جدًا هي من تهتم بمراجعة الطبيب النفسي، مشيرًا إلى أن تحوُّل الطبيب للعمل بالعقارات لا يخرج عن هذا السياق.

كما ذكر أن اختيار التحول نحو العمل سائق توك توك ربما جاء انعكاسًا لرغبة نفسية داخلية في الهروب إلى حالة الفوضى وتجاوز القانون التي يمثلها التوك توك.

 

نموذج آخر للتحول الوظيفي

وفي نموذج آخر للتحول الوظيفي، لا يخفي ناجي خليفة -مهندس زراعي- شعورًا بالرضا بعدما قرر أخيرًا ترك عمله بمركز البحوث التابع لوزارة الزراعة ليفتح ورشة نجارة، قائلاً إنه ورث الصنعة عن أبيه لكنه تمسَّك في البداية بتخصصه الدراسي.

ويضيف “الوقت ضاع بلا فائدة، والمرتب الحكومي ضعيف جدًا، والعمل كان بعيدًا عن التخصص الدراسي، والشعور بالإحباط تزايد”.

ويرى خليفة أن شعوره بالحرية والراحة النفسية هو الأهم حاليًا، إضافة إلى المكاسب المادية، لكنه يشير إلى مضايقات تتعلق بالتراخيص وقوانين العمل والضرائب وارتفاع أسعار الأخشاب نتيجة أزمة الدولار.

 

الرضا الوظيفي

من جهة ثانية، يربط أستاذ الموارد البشرية بجامعة حلوان وليد عبد الفتاح بين ما يسميه “الرضا الوظيفي” وتزايد معدلات “التحول الوظيفي”، ويرى أن بيئة العمل في مصر ربما تسبب بعض الأضرار النفسية وتعمق الشعور بعدم الرضا على صعيد التمييز في الأجور وتوزيع الجهد، فضلاً عن المناصب العليا.

وتعليقا على ذلك، يقول طبيب الأسنان الشاب عبد الرحمن عيد إن السبب الأول في تحوله نحو العمل بالعقارات كان صدمة الراتب الذي يتقاضاه والذي يتجاوز بقليل نحو 100 دولار، فضلاً عن توزيعه للعمل بوحدة صحية نائية قرب مدينة بني سويف التي تبعد عن القاهرة نحو 145 كيلومترًا.

ولا يتفق مع هذا الرأي ربيع سعيد، المحاسب الذي اختار أن يكون سائق توك توك، ويقول إنه يشعر حاليًا ببعض الرضا المالي، لكن ليس بالدرجة التي كان يتوقعها بسبب “يوم العمل الشاق” ومطاردات السلطات المحلية.

وهنا يقول أستاذ الموارد البشرية وليد عبد الفتاح إن الرضا الوظيفي يقلل من الضغوط النفسية. ويرى أن الصحة النفسية أساس ضروري لبيئة عمل آمنة تحد من الشعور بالقلق والاكتئاب، وهو ما يتطلب تكثيف برامج التثقيف النفسي داخل المؤسسات وتأكيد “الأمان الوظيفي”.

وعلى صفحته الشخصية في فيسبوك، يدعو عبد الرحمن حمادة -اختصاصي تعليم إلكتروني- إلى التحرر من الوظيفة والتحول للعمل الحر قائلاً “لا يوجد شيء اسمه الأمان الوظيفي".

وأخيرًا، دعت منظمتا الصحة العالمية والعمل الدولية إلى اتخاذ إجراءات ملموسة لمعالجة الشواغل المتعلقة بالصحة النفسية للعاملين، وذلك على خلفية تقديرات بضياع ساعات العمل على مدار اليوم بما كلف الاقتصاد العالمي تريليون دولار تقريبًا.