ما إن تدخل أشهر الحج حتى يُقبل حجاج بيت الله من أطراف الأرض ومن جميع أجناس البشر وطبقات المجتمعات وأصناف الناس بقلوب مملوءة بالشوق والمحبة، يتلذذون بالمشقات في الأسفار، ويفرحون بمفارقة الأهل والأصحاب والأوطان، ويحسّون أن ساعات الحج أسعد ساعات العمر، ويعظمون مشاعر الحج بقلوبهم، وينفقون الأموال بسخاوة نفس وطيب قلب.

فتعالوا نشاركهم تلك المشاعر ونعيش معهم في كل مشعر من المشاعر بقلوبنا، لعل الله أن يمن علينا بفضله ونكون معهم يوما من الدهر لنؤدي تلك المشاعر.

 

1 - ملابس الإحرام:

يستشعر المسلم أنها تُشْبِهُ الكَفَن الذي يرتديه المَوْتى، وَكَأنَّك بهذه الملابس تستعدُّ للقاء الملك - سبحانه وتعالى - فهو نفس الزيّ الذي ستُقابله به عندما تموت؛ فهو زِيٌّ لا جيوبَ له؛ لأنك لن تأخذَ مَعَكَ شيئًا مِن الدنيا إلا عملَك.

 

 2- عندما تجتنِب محظورات الإحرام:

تستشعر الاستِسلام والخضوع والانقياد التامَّ لأوامر الملك - جَلَّ جَلالُه – وهذا مقتضى العبودية، فالشرع منعك من الحَلْق حال إحرامك، وكذا الصَّيْد، وكذا اللغو والرفث وغيرها من المحظورات، وأنت تقول: سمعًا وطاعةً يا رب.

 

 ‏3- التلبية لَبَّيْكَ اللهم لَبَّيْكَ:

تَستشعِر سرعة الامتِثال لأمر الملك - سبحانه وتعالى - والاستجابة لندائه، فكأنك تقول: تركتُ حياتي كلَّها وأتيتُ، لا أترُكُها لأحدٍ سواك، لَبَّيْكَ في كل طاعة، لَبَّيْكَ في تَرْك كل معصية، لَبَّيْكَ في مُعاهَدةٍ للاستِقامة على طريق الطاعة.

ووفقًا لـ"زاد الواعظين"؛ فلابد أنْ تظل طوال حياتك تقول: لَبَّيْكَ، لا يَصِحُّ أنْ تقولها في الحج ثم تعودُ من الحج لِتقول: سمعنا وعصَينا.

 

 4- لَبَّيْكَ لا شريكَ لكَ لَبَّيْكَ:

وأنت تقول: لَبَّيْكَ لا شريكَ لكَ لَبَّيْكَ: تستشعِر نعمة التوحيد؛ أن اللهَ وَحْدَهُ هو الذي يَرزُق، وأنه وَحْدَهُ الذي يَأمُر وينهى ويُشرِّع فالحمدُ لله على نعمة التوحيد.

 

5- عند دخولك الحرَم:

تذكَّر أن الصلاة في هذا الحرم بـ 100 ألف صلاة، فتقول: أحَقًّا يا رب، قد مننتَ عليَّ أنا - العبد العاصي المُذنِب - وأتَيْتَ بي إلى هذا المكان العظيم؛ حتى تُعْطِيَني كل هذه الحسنات؟! يا رب، أنا لا أستحق هذا الكرم.

 

 6- عند رؤية الكعبة:

تذكَّر أن هذه هي قِبلة المسلمين في جميع أنحاء العالم، التي يتوجَّه إليها كل مسلم في صلاته، هذه هي الكعبة التي فوقها مُباشَرةً البيت المعمور في السماء السابعة، الذي يطوف حوله في كل وقت سبعون ألف ملَك.

وتذكَّر أن هذا هو المَوْضِع الوحيد على وجه الأرض الذي يُمكنِك أنْ تُشاهِد فيه معنى: ما مِن مَوْضِع أربع أصابع، إلا ورجلٌ ساجد، أو راكع، أو يطوف، أو قارئ، أو داعٍ، أو باكٍ، وهكذا.

 

7- الحجر الأسود:

عندما تَستلِم الحجر الأسود ينبغي أنْ تتذكَّر: لماذا جُعل استلامه أول الشعائر في الحج؟ لأن الحجر الأسود مِن الجنة، وَكَأنَّ اللهَ يُذكِّرُكَ بالهدف الذي أتيتَ مِن أجله، وتركتَ حياتك مِن أجله، وأنفقتَ كل هذه النقود مِن أجله، وبذلتَ كل هذا المجهود مِن أجله، ألاَ وهو الجنة.

فتَذَكُّرُكَ للهدف يُشْعِلُ قلبَك، وَيُتعِبُ جوارحك في طاعة الله تعالى، وتذكَّر أيضًا أن هذا الحجَر كان أبيضَ كالثلج، ولكن سَوَّدَتْهُ ذنوب بني آدم، فاحذر من المعاصي والذنوب؛ لأنها قد تُسَوِّدُ أيَّ شيءٍ في حياتك كما سَوَّدَت هذا الحجر.

 

8- الطواف:

وأنتَ تطوف تَستشعِر المعنى الإيماني للطواف، وهو: استرضاء الله - سبحانه وتعالى - وكأنك تقول: كيف أُرضيك يا رب؟ افتح لي أيَّ باب يُوصِّلني إليك، أنا مُنتظِرٌ أيَّ رحمة أو نفحة تَمُنُّ عليَّ بها؛ فالطواف علامة شوق للوصول إلى الله، والنظر إلى وجههِ الكريم.. تساءل دائمًا: كيف أستطيع الوصول إليك يا رب؟

 

9- السَّعْي:

تَستشعِر قوْلَ اللهِ تعالى: "وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا" (يس: 38) يعني: تجري إلى المكان الذي ستَسجُد فيه تحت عرش الملك العظيم - سبحانه وتعالى.

ثم تذكَّر، لماذا يكون السَّعْي بعد الطواف؟

لأنك في الطواف كنتَ تقول: كيف أصِلُ إليك يا رب؟ فكأنَّ اللهَ يقول لك: لابدَّ أنْ تسعى وتُجاهد حتى تَصل إليَّ، فلن تصل إلى الجنة، ولا إلى رِضا الملك - سبحانه وتعالى - دونَ سعيٍ ومُجاهَدة، لن يُفتَحَ عليك في الدنيا بدون سَعْي؛ قال تعالى: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ" (آل عمران: 142).

لا بدَّ أنْ تتعبَ لله، وأنْ تَستشعِر لذَّة التعب لِمَن تُحبُّ، وأنْ تستشعِر أيضًا أن الله يَراك وأنت تتعب في تنفيذ أوامره؛ قال تعالى: "الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ" (الشعراء: 218)  وكذلك تستشعِر أن الله - تعالى - سيُجازيكَ على هذا التعب ويُكافِئك عليه، قال تعالى: "إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا" (الإنسان: 22).

وتذكَّر، وأنت تذهَب إلى المروة شوطًا، ثم تعود إلى الصَّفا وهكذا سبع مرات، وَكَأنَّك تقول: يا رب، أنا لن أتركَ بابًا يوصلني إليك، بل ولن أقف عليه مرةً أو مرَّتَين وفقط، ولكن سأظلُّ أقف عليه، وأذهب وأجيء إليه حتى تَفتحَ لِي بابك، لن أيئَس يا رب حتى ترضى.

 

 10- زمزم:

هذه البئر العظيمة، التي يصل عمرها إلى آلاف السنين، وإلى الآن ما زالت تَروينا، ويَحمِلُ الناس أطنانًا منها إلى باقي البلاد، ولم تجفَّ، مع أن كل الآبار التي قبلها قد جَفَّتْ تمامًا، إنها معجزة إلهية تحتاج إلى تأمل.

 

 11- الوقوف بعرفة:

هذا اليوم العظيم، الزحام شديد، الناس يُلَبُّونَ بجميع اللغات، اللهُ - تعالى - يتنزَّل؛ يغفرُ الذنوب، يُجيب الدعاء، يعتِق مِن النار، يمنح العطاءات والرحمات، سبحانَ الله العظيم، يوم عرفة هذا يُعلِّمنا أننا أمة واحدة، قوية، مُتماسِكة، فلماذا التمزُّق والتفرُّق والاختلاف بعد الحج؟

 

12- المزدلفة:

يأتي معناها مِن الزُّلفة؛ أي: القُربَة؛ يعني: كأنه المكان الذي نَقف فيه لنتقربَ إلى الله، سبحان الله، تجد في هذا المكان ملايين الناس يَرتدون ملابس الكفن البيضاء، ويَستيقِظون مِن النوم معًا، وتجدهم واقفين في التراب معًا، وَكَأنَّ المشهد قريبٌ مِن منظر البعث، وَكَأنَّ الحَجَّ يُرَبِّينا على الاستعداد للدار الآخِرة.

 

13- رَمْي الجمرات:

تلاحظ عند رَمْي الجمرات أنك ترمي في أول يوم 7 جمرات، ثم ترمي في اليوم الثاني 21 جمرة، وفي الثالث 21 جمرة، وفي الرابع 21 جمرة، فيكون المجموع كله 70 جمرة، يعني ما يَقرُب مِن عدد شُعَب الإيمان، وَكَأنَّك ترجم الشيطان على كل شعبةٍ يقف لك عليها حتى يُحبِطَكَ، وَيَشغلكَ عنها، فكأنك ساعَتَها تقول: يا رب، إنني سأجاهد الشيطان، وسأُحاربه في كل شعبة، يا رب، سأدخل كل الشُّعَب بإذنك وفضلك ومعونتك، لن أجعل شيئًا يُعطِّلني أو يَمنعني من الوصول إليك، سأتحمَّل يا رب ولن أتكاسَل بعد اليوم.

 

14- الهَدْي والأُضحِيَّة:

تُعلِّمنا التضحية لله، أضحِّي بمَحبوباتي وشهواتي مِن أجلك يا رب، أضحي بروحي من أجلِك يا رب؛ قال تعالى: "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ" (التوبة: 111).

 

15- طواف الوداع:

مَن مِنَّا يستطيع أنْ يتحمَّل قلبُه هذا الوداع؟ أحَقًّا سأترك كل هذا الثواب، وكل هذه النفحات والرحمات وأرحل؟! أحقًّا سأُودِّع هذا البيت العظيم الذي فيه الصلاة بـ 100 ألف صلاة، مِن أين سأحصل على هذه الحسنات مرة أخرى؟! يا رب، لا تَحرِمني العَوْدة إلى هذا المكان العظيم مرةً أخرى.

 

 16- وأخيرًا زيارة الحبيب (صلى الله عليه وسلم):

هذا لقاء حقيقي بينك وبين النبيِّ الكريم، صاحب الخلُق العظيم، النبي الخاتَم، الذي نقرأ سيرته العَطِرة ولم نَرَهُ بأعيننا، لقاء كُلُّهُ حُبٌّ وَشَوْق، لقاءٌ فيهِ خجل رهيب من التقصير في اتباع سُنَّته -صلى الله عليه وسلم-  بعد أنْ أفنى عُمرَهُ، وَضَحَّى بروحِهِ، حتى يصلَ إليك هذا الدين العظيم، بعد أنْ تورَّمت قدماهُ في عبادة ربه، أين أنت من هذا؟ هل ترغبُ بنفسك عن نفسِه؟!

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه)، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): "لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا"(رواه مسلم: 199).