«نشعر بأننا في السجن» عبارة رددها أكثر من شخص من غزة ممن يتلقون العلاج في مستشفيات مصرية، وهم يصفون ظروف «احتجازهم» بعد خروجهم من وطأة العدوان الإسرائيلي على غزة. 

محمد (45 سنة) تعرض لإصابات متفرقة في جسده نتيجة صاروخ طائرة «F16» استهدف حي تل الهوى في ثالث أيام العدوان على غزة، فيما كان بطريقه لشراء الطعام. ظهر اسمه في كشوفات من سمح لهم بالعبور إلى مصر للعلاج، وأثناء الرحلة إلى رفح للعبور، تعرض للإصابة مرة أخرى عندما استهدف قصف إسرائيلي سيارة الإسعاف التي كانت تقله. في مصر، أجرى محمد أول عملية جراحية له في مستشفى الشيخ زويد في شمال سيناء في نوفمبر الماضي، ونقل بعدها إلى مستشفى التل الكبير بالإسماعيلية لاستكمال علاجه، لتبدأ مأساة جديدة.

«المستشفى عبارة عن سجن. لا يوجد علاج. فقط مسكنات»، يصف محمد حاله في مستشفى التل. 

خلال فترة الأشهر الأربعة داخل المستشفى، لم يخرج محمد منه أبدًا. «كنت محتاج أحلق، بعد ما عانيت كثيرًا، جابولي حلاق للمستشفى. استمريت أربع شهور كأنني بالسجن. لم أخرج ليوم واحد. شعرت باكتئاب» يقول محمد. 

ويضيف: «إذا حاولنا التعرف على أي شخص مصري داخل المستشفى، يمنع أمن المستشفى ذلك تمامًا. هناك فرد من الأمن بالمستشفى كان سيتم فصله من العمل بسبب التصوير معي».

هناك حوالي خمسة آلاف و500 فلسطيني، بحسب وزير الصحة، خالد عبد الغفار، جاءوا إلى مصر بعد اندلاع الحرب في 7 أكتوبر الماضي عن طريق آلية التنسيق الطبي، سواء بسبب الإصابة خلال العدوان أو الاحتياج للعلاج من وضع صحي حرج كالإصابة بالسرطان. ولكن، بسؤال العديد ممن حضروا إلى مصر لتلقي العلاج، حكى الكثيرون عن غياب الخدمة الصحية من ناحية، والتضييق الأمني على المرضى وأسرهم من ناحية أخرى.

أحمد موسى، مدير مستشفى التل الكبير بالإسماعيلية، رفض الرد على أي استفسارات بخصوص أوضاع الفلسطينيين لديه، قائلًا: «هناك تعلميات تصل إلينا مشددة بعدم الحديث عن مصابين ومرضى غزة، سواء عن وضع الرعاية الصحية أو وضعهم الأمني، لكنهم بالتأكيد يحصلون على خدماتهم الطبية».

حال محمد في مستشفى التل الكبير لا يختلف عن مرضى ومصابين فلسطينيين آخرين في مستشفيات أخرى في مصر.

أم محمد، مريضة بسرطان في الغدد، خرجت من غزة عبر معبر رفح شهر مارس الماضي، بعد ظهور اسمها على قوائم التنسيق. دخلت مستشفى حميات دمياط، حيث تصف الوضع بـ«شديد الصعوبة»، كما أنها لم تحصل على أي علاج حتى الآن. 

أم محمد وآخرون من مرضى السرطان أخبرتهم السلطات الفلسطينية أنهم سيتلقون العلاج في دولة الإمارات أو تركيا بعدما قدموا طلباتهم إلى السلطة الفلسطينية وذلك في إطار تعاون  طبي، ولكنهم جاءوا إلى مصر، وحتى الآن هم محتجزون في مستشفى حميات دمياط دون تلقي العلاج. تقول أم محمد: «المفترض أن التحويل كان إلى الإمارات لأخذ جرعات الكيماوي واستكمال العلاج، ولكن حتى الآن لا نعرف سنبقى هنا أم سنذهب؟»

يمنع الأمن داخل المستشفى المرضى من الخروج حتى لشراء الطعام أو المستلزمات الشخصية، حسب أم محمد، التي تضيف: «يجب أن يكون أحد أفراد الأمن مرافقًا لنا إذا خرجنا، وحتى الطعام يجب أن نطلبه حتى لا نخرج من المستشفى. نشتري الطعام بأضعاف السعر في السوق. الساعة 9 مساءً يجب أن ندخل الغرف. ممنوع حد ينزل أو أطفال تلعب، وأولادنا بحاجة للتنفس. الجرس يدق 6 لـ9  لكي ندخل الغرف الخاصة بنا كأننا في مدرسة. نشعر بأننا في السجن».

الظروف الشبيهة بالاحتجاز وصفتها انشراح من البريج بغزة، والتي حضرت إلى مصر مع طفلتها حلا (15 سنة) المصابة باللوكيميا. وصلت من غزة خلال شهر رمضان الماضي، وظلت في مستشفى حميات دمياط. «ممنوع الخروج من المستشفى. انتظرت تلات أيام حتى أشتري طعام وملابس لابنتي. الخروج لا يكون يوميًا ويكون من ساعة إلى ساعتين. يتم تحديد ساعة معينة للرجوع ويكون معنا أمن. حاولت أخرج آخر مرة قيل لي: أنتِ خرجتي مرتين مفيش خروج تاني» قالت انشراح، مستخدمة تعبير «السجن» في وصفها للمستشفى.

طبيب سابق في مستشفى التضامن ببورسعيد، فضل ألا نذكر اسمه، يوضح لـ«مدى مصر» أن الزيارات كانت ممنوعة تمامًا داخل المستشفى للفلسطينيين، وذلك دون سبب منطقي، «لدرجة أنني دخلت في شجار مع إدارة المستشفى للسماح بدخول الزيارات للمرضى، ولكن تعرضت لإهانة من الإدارة. كنت حابب اساعدهم معرفتش». ويضيف الطبيب، الذي قدم استقالته منذ شهر، أن التعنت الأمني وصل إلى أن امرأة أرادت التبرع بمجموعة من الكراسي المتحركة للمصابين، والأمن رفض، فدفعت رشاوي للسماح لها بدخول الكراسي. 

في المقابل، يوضح الطبيب أن هناك أسبابًا لمنع المرضى والمصابين من الخروج من المستشفى، وهي الخوف من خروجهم وعدم عودتهم، فيما تتحمل إدارة المستشفى مسؤولية عن هذه الحالات بعد خروجها من غزة.
بحسب وصف القادمين للعلاج في مصر عن طريق آلية التحويل الطبي، تسلم أوراق المرضى والمصابين للمستشفى كـ«عهدة»، ولا يمكن للمستشفى قبول خروج المرضى الفلسطينيين دون تسليم تلك «العهدة» للسفارة الفلسطينية.  

بجانب التضييق الأمني، يحكى محمد، الجريح، وأم محمد، المصابة بسرطان الغدة، عن عدم الحصول على العلاج، وهو ما أكده أيضًا أشرف مهنا عن حال زوجته المصابة بسرطان الغدة الدرقية ولم تحصل على العلاج الإشعاعي اللازم لها في مستشفى دمياط للحميات، وذلك بعد إجراء عملية استئصال الغدة بغزة في بداية الحرب. 

كذلك تشكو انشراح من عدم استكمال علاج نجلتها. «شهر ونص بلا علاج. يقال لنا في المستشفى: يفترض السفارة هي التي تعالج وتجد لكم حل».

سامي الجوجو، مدير عام مؤسسة بسمة أمل لرعاية مرضى السرطان بغزة، يوضح من جانبه، أن مرضى السرطان المحولين لمصر ينقلون إلى مستشفيات بعيدة عن القاهرة وغير متخصصة في السرطان من الأساس. «إذا كان مريض السرطان عنده بروتوكول علاج، حالته تنتكس. أتوقع وجود حالات وفاة خلال الفترة المقبلة بسبب عدم تلقي العلاج اللازم»، يقول الجوجو.

كذلك يشرح محمد المغربي، المرافق مع شقيقه أحمد المصاب بتهتك في مفصل اليد اليمنى نتيجة غارة إسرائيلية، أنه تم تحويله إلى مصر في 6 ديسمبر الماضي لإجراء عملية جراحية، لتبدأ رحلة طويلة من الانتقال من مستشفى لآخر في مصر. «تم التحويل لمستشفى التضامن ببورسعيد. ولكن للأسف لم يجر العملية هناك، ليتم نقلنا إلى مستشفى الحميات بالإسماعيلية. بقينا هناك 45 يومًا دون علاج ولا إجراء عملية، مجرد تغيير على الجرح، ليتم تحويلنا مجددًا إلى مستشفى دار الشفاء في القاهرة، ولم نحصل على العلاج أيضًا». 

من مستشفى دار الشفاء، نقلت السفارة الفلسطينية محمد وشقيقه أحمد إلى فندق للمسنين بالقاهرة. «لم يتم إجراء عملية. حاولنا التواصل مع السفارة ليتم إخبارنا أن تلك هي التعليمات، وأنتم بالفعل تم علاجكم والعلاج خلص وخرجتم».

يتوزع معظم المصابين والمرضى على 160 مستشفى على مستوى الجمهورية، حسب تصريحات وزير الصحة الشهر الماضي، ومنها مستشفيات التل الكبير وأبو خليفة بالإسماعيلية، والحياة والشفاء والتضامن والصدر في بورسعيد، ومستشفى الحميات بدمياط، ومستشفيات العريش والشيخ زويد وبئر العبد في شمال سيناء، والسلام وناصر الطبي في القاهرة.

يشرح الطبيب السابق في مستشفى التضامن وضع الرعاية الصحية للفلسطينيين بالمستشفيات بشكل عام، موضحًا أن المريض أو المصاب يتم تسكينه في مستشفيات ليس بها رعاية صحية، هي مجرد مكان للانتظار إلى حين اتاحة مكان داخل مستشفى جاهزة لاستقباله، «لذلك يضطر بعض المرضى لشراء العلاج على حسابهم الخاص والعلاج يكون مكلف للغاية».

ويضيف الطبيب أن الوضع سيء بالفعل في هذه المستشفيات لمتلقي الخدمة بشكل عام، مفسرًا أنه على سبيل المثال في مستشفى الصدر في بورسعيد٬ هناك مرضى لم يتلقوا أي علاج منذ ستة أشهر رغم خطورة حالاتهم الصحية.  

بدورها، تشتكي أم محمد للسفارة الفلسطينية في مصر من عدم تلقيها العلاج أو الحصول على دعم مالي: «المفترض أن هناك مبالغ تأتي على أسمائنا وتبرعات ولكن لا نحصّل منها شيئًا».  

بحسب عدد من القادمين للعلاج في مصر يفترض أن تغطي السفارة مصروفات علاجهم بالكامل، لكن ذلك لم يحدث، ومعظمهم ينفقون على علاجهم من أموالهم الخاصة. 

الطبيب السابق في مستشفى التضامن أوضح أيضًا أنهم تواصلوا مع السفارة الفلسطينية لتغطية تكاليف العلاج  للمرضى والمصابين، لكن السفارة لم تدعمهم ماديًا، «مجرد زيارات رسمية لهم فقط». 

بدوره، رفض السفير الفلسطيني، دياب اللوح، الرد على أي أستفسارات بخصوص الدعم المالي الذي تقدمه السفارة الفلسطينية للمرضى والمصابين.  

ويقول اللوح إنه لا يوجد أي تضييق أمني على المرضى في المستشفيات، ويصف ذلك بـ«مجرد شائعات»، مضيفًا أنه هناك نظامًا جيدًا للغاية في المستشفيات، ومصر تقدم لهم الرعاية الصحية الكاملة. 

في ظل الحرب التي تخللها انهيار للمنظومة الصحية في القطاع، بدأت عمليات تحويل المصابين والمرضى للعلاج في الخارج. صبحي سكيك، مدير مستشفى الصداقة التركي بغزة، الخاص بعلاج مرضى السرطان، يوضح أن هناك ما يزيد عن 45 ألف طلب تحويل لمرضى ومصابين للعلاج بالخارج، بينهم عشرة آلاف مريض سرطان، إضافة إلى 11 ألف مصاب، فيما كان من يسمح لهم بالسفر قبل 8 مايو الماضي (قبل إغلاق معبر رفح في ظل العملية العسكرية الأخيرة في رفح) يتراوح عددهم بين 40 و43 مريضًا.
ويشدد سكيك أنه لا يوجد تنسيق حقيقي للمرضى حسب حالاتهم، حيث لا توجد آلية ليناقش من خلالها أطباء غزة الشخص المسؤول عن السماح للمرضى والمصابين بالسفر. كما أشار إلى أن مصطلح حالة طارئة لا وجود له على القوائم، وهذا «لا يتماشى مع العرف الطبي والإنساني». بحسب سكيك، اللجنة المسؤولة عن إعداد قائمة السفر النهائية، «لا نعرف عنها شيئًا، لا طريقة عملها ولا أعضائها لأنها من خارج غزة، ولا توجد آلية نناقشهم من خلالها». 

ويضيف سكيك: «أعدادًا كبيرة من المرضى لا يوافق على سفرها، وبعضهم ينتظر من قبل بداية الحرب».