فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) ارتفع صوته بالبكاء وانهمرت الدموع من عينيه كأنها سيلٌ؛ إذ تذكر وصية صديقه، ثم خصَّص مبلغًا من المال لهذه الفتاة حتى كبرت وتزوَّجت.

وعُرف عنه العطف والرحمة والشفقة بالفقراء والبسطاء، فقد كان لا ينام حتى يطمئن على فرسه ويطعمه ويسقيه، ويوصي برعايته، وهو إحساسٌ عظيمٌ يعبِّر عما في قلبه من عواطف ملتاعة كلها شفافية وصفاء، وقد كان الشيخ يشتهر بالبكاء في القراءة، وكان يقرأ في الإذاعة على الهواء مباشرةً يومي الإثنين والجمعة قرابة الساعة.

كان الشيخ محمد رفعت طيبًا متواضعًا زاهدًا، ويكفي أن نذكر أنه رفضَ الذهابَ للقراءةِ في عزاء الملك فؤاد الأول، وفضَّل القراءةَ في عزاءٍ أحد جيرانه الفقراء بلا أجْرٍ.

بين الشيخ ومحمد عبد الوهاب

كانت بينه وبين محمد عبد الوهاب علاقة صداقة؛ حيث كان عبد الوهاب يحرص على قضاء أغلب سهراته في منزل الشيخ بالسيدة زينب، بل وربما كانت هذه السهرات مع أعلام الموسيقى والفن، وكان الشيخ يُغني لهم بصوته العذب الجميل قصائدَ كثيرة، منها: "أراك عصيَّ الدمع"، وعبد الوهاب يجلس بجواره، يحدثه حول أعلام الموسيقى العالمية.

وذات مرة أشار محمد عبد الوهاب عليه أن يسجل له القرآن الكريم كاملاً مقابل أي أجر يطلبه، لكن الشيخ اعتذر خوفًا من أن يمسَّ الأسطوانات القرآنية سكران أو جُنُب.

مرضه ووفاته

وفي عام 1942م أُصيب الشيخ محمد رفعت بمرض (الزغطة)؛ حيث كانت تلازمه فترةً طويلةً تزيد على الثلاث ساعات يوميًّا، وتوقف عن التلاوة نهائيًّا عام 1944م، وظل قعيدًا بمنزله بعد أن طاف بعدد كبير من الأطباء ولكن دون جدوى.

وكان في تلك الفترة يذهب إلى الإذاعة يومين في الأسبوع هما يوما الإثنين والجمعة، وذلك حتى عام 1948م حيث اشتدَّ عليه المرض الذي كان يهاجمه أغلب ساعات يومه دون انقطاع، حتى إنها هاجمته مرةً أثناء قراءته بالإذاعة فامتنع عن الذهاب إلى الإذاعة بعدها لشعوره بالخوف على ضياع مكانته كقارئ عظيم، مكتفيًا بما قدَّم، حتى إنه فضَّل القراءةَ في إحدى مساجد حي السيدة زينب، وهو مسجدٌ فاضلٌ كان يقرأ فيه القرآن دون أن يذهب إلى الإذاعة.

 وحينما كتب الصحفي أحمد الصاوي يطالب بالوقوف مع رفعت في محنته فانهالت عليه التبرعات من أنحاء العالم الإسلامي، إلا أنه لم يقبلها وردَّها كلها، وقال: "لقد عشت طول حياتي دون أن أمدَّ يدي لأحد، وهذا من فضل الله عليَّ، وقد كفاني جلَّ وعلا ذلَّ السؤال، فعندي إيراد منزلي الذي أقيم فيه وقطعة أرض في المنيرة عليها بضعة دكاكين، وإيرادها يكفي نفقات علاجي".

 وفي يوم الإثنين بعد ميلاده بثمانية وستين عامًا تحديدًا مات الرجل الذي عرف كيف يصل بصوته الحنون ونبراته الرخيمة إلى أعماق القلوب.. مات صاحب الصوت الذي ظلَّ يجلجل على أمواج الأثير، مردِّدًا آيات الله في الآفاق.

قالوا عن الشيخ محمد رفعت

قال عنه الأديب محمد السيد المويلحي: "سيد قراء هذا الزمن، موسيقيٌّ بفطرته وطبيعته، إنه يزجي إلى نفوسنا أرفع أنواعها وأقدس وأزهى ألوانها، وإنه بصوته فقط يأسرنا ويسحرنا دون أن يحتاج إلى أوركسترا".

ويقول أنيس منصور: "ولا يزال المرحوم الشيخ رفعت أجمل الأصوات وأروعها، وسر جمال وجلال صوت الشيخ رفعت أنه فريدٌ في معدنه، وأن هذا الصوت قادرٌ على أن يرفعك إلى مستوى الآيات ومعانيها، ثم إنه ليس كمثل أي صوت آخر".

ويصف الموسيقار "محمد عبد الوهاب" صوت الشيخ محمد رفعت بأنه ملائكي يأتي من السماء لأول مرة"، وسُئِل الكاتب الكبير "محمود السعدني" عن سرِّ تفرد الشيخ محمد رفعت فقال: "كان ممتلئًا تصديقًا وإيمانًا بما يقرأ".

أما الأستاذ "علي خليل" شيخ الإذاعيين فيقول عنه: "إنه كان هادئ النفس، تحس وأنت جالس معه أن الرجلَ مستمتع بحياته، وكأنه في جنة الخلد، كان كيانًا ملائكيًّا، ترى في وجهه الصفاء والنقاء والطمأنينة والإيمان الخالص للخالق، وكأنه ليس من أهل الأرض".

ونعَته الإذاعة المصرية عند وفاته إلى المستمعين بقولها: "أيها المسلمون.. فقدنا اليوم عَلَمًا من أعلام الإسلام".

أما الإذاعة السورية فجاء النعي على لسان المفتي؛ حيث قال: "لقد مات المقرئ الذي وهب صوتَه للإسلام"!!

 

 

المصدر: اخوان اونلاين