د. خالد حمدي

جلس صلاح الدين الأيوبي على شاطئ البحر ينظر بعيدا بعدما منَّ الله عليه بتحرير القدس وانتصار حطين.

فقطع عليه قائد جيشه هذا الشرود وقال له:

فيمَ تفكر أيها السلطان؟

قال: أفكر في أن أخوض هذا البحر حتى أعبره، ثم لا أترك وراءه أحدا لا يعبد الله إلا عبَّدته الله!!

تخيلت وأنا أقرأ أول القصة أن الرجل يريد أن يستريح…لا سيما بعد كل هذه السنوات الطويلة التي قضاها في تحرير مصر من العبيديين، ثم في رد غوائل الصليبيين عنها، ثم ما كان من معاركه في طريق تحرير القدس في يافا ومرج عيون وغيرهما، ثم ما كان من أمر حصاره لصفد وعكا والكرك وصور، وانتهاء بحطين وما أدراكم ما حطين؟!!

لذلك تخيلت أن الرجل ينشد الراحة بعد كل ما صنع…

لكنني وجدت أن أصحاب الهمم أمثاله كأنما يشربون ماء مالحا، كلما حققوا نصرا تعطشوا لغيره، حتى تنقضي الحياة ولما يرتووا بعد!!

وهم مع ذلك يستقِلُّون فعلهم، ويحتقرون إنجازهم …

كما قال الله تعالى:

"والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة"

انظر إلى عمر رضي الله عنه وهو يُفَدَّى ويحتضر، وابن عباس عند رأسه يذكِّره بحسن صنيعه ويقول:

مصَّر الله بك الأمصار، وفتح بك الفتوح، وفعل، وفعل…

فقال عمر: المغرور من غررمتوه… وددت أني أنجو لا أجر ولا وزر ….

ثم قال لابنه: ويحك ضع خدي على الأرض، عساه أن يرحمني، ويل أمي، إن لم يغفر لي (ثلاثا)، ثم قضي، رضي الله عنه.

ويكأن الذين يعطون كثيرا يزداد شعورهم بالتقصير… كأنما يرون حياتهم بئرا، ويراه الناس بحرا!!

بينما تمتلئ حياة بعضنا بسفاسف الأمور حتى توشك أن تنتهي بين مواقع التواصل، ومواضع النوم، ثم يلقى الله تعالى ولما يختم كتاب الله حفظا، أو يهتد على يديه مهتدٍ، أو ينفع المسلمين بشيء من مواهبه، ثم لا يشعر بعُشر ما شعر به عمر أو صلاح الدين من التقصير… كأنما يرى حياته كالبحر، وهي لا تعدو ملء قِدر!!

لا بد من شعور يعترينا بأن هناك ما ينبغي فعله من هدايات الخلق، وإصلاح الكون، يواكبه شعور بالتقصير الدافع لا المقنِّط أو الميئِّس، لأن الهمة أولها هَم، وآخرها فعل..

 

أعرف أصحابا ينامون يحلمون ببزوغ الفجر ليستأنفوا عملهم الذي ناموا عليه من تزويج بنات الجار، أو إصلاح ذات البين، أو تعليم صبية الحي، أو السعي لقضاء دين، أو إيقاظ غافل، ودلالة ضال، ثم إذا أثنيت على صنيعهم بكوا متعللين بفراغ صحائفهم، وقلة عملهم، وحيائها من ربهم…

بينما أعرف غيرهم أكثر موهبة، وأوفر صحة، ومالا، وأوسع وقتا، ثم هم أقل عملا وندما…

وحين تذكرهم بحق الله في الأعمار والمواهب والإمكانات انتفخت الأوداج، وحضرت العلل!!

إن أمتنا أحوج ما تكون إلى صنيع صلاح الدين الميداني مع خجله من التقصير القلبي، حتى يقطع طريق إصلاحه الطويل في نهم ودأب…

وإلا فما أكثر أصحاب الأصوات الزاعقة والأعمار الفارغة!!

وبينما أقرأ في كتاب الله وجدت هذا المعنى مبثوثا في الآيات، وإن لم يلتفت إليه بعضنا:

مثل قوله تعالى:

"وبالأسحار هم يستغفرون"

يقول علماؤنا:

سبحان الله!! قاموا في الأسحار، وكابدوا النوم ودفء الفراش، ثم إنهم يشعرون بالتقصير فيستغفرون!!

إن خجلة المؤمن لمن عوامل بذله، وإن رضاه عن نفسه لمن أسباب ضياع عمره.

وإن حال أمتنا والله ليحتاج إلى ألف ألف عامل خجول، أكثر من حاجتنا إلى ذلك الكم الهائل من هذا الخمول القؤول!

فعجلوا بتسجيل أسمائكم إخوتي في أهل النوع الأول، لأن الأعمار لم تُمنح إلا لذلك.