ساري عرابي
لا ينبغي أن يكون هذا التيار الموسوم بالجامية أو المدخلية موضع نقاش جادّ في شأن مقاومة الفلسطينيين الجارية في قطاع غزّة للعدوان الإسرائيلي، ولا في أيّ نقاش في الحقيقة؛ لا لتهافت مقولته فحسب، ولكن أيضا لارتكاسها عن حقائق الفطرة الآدمية؛ المركوز فيها الوعي بالكرامة الآدمية، إلا أنّه يجدر الوقوف معه لكونه واحدا من أدوات أنظمة الطغيان والعمالة، في مسح كرامة شعوبها، وتشويه وعيها، سعيا منها في إعادة صياغة إدراك تلك الشعوب لذاتها بما لا يصعد بها إلى مراتب البشر. وبكلمة أخرى، فإنّ استهداف هذا التيار بالكشف والتفكيك، هو استهداف لأدوات أمنية، ولسياسات تتبيع وتركيع وإذلال، تصل حدّ نزع القيم الكبرى من الدين، وطمس منزلة الجهاد فيه، والاستخفاف بها، ممّا يعني في مآل الأمر الاستخفاف بالقرآن وبجهاد سيّدنا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
الجامية أو المدخلية صارت علما على هذا التيار، بيد أنّه وللدقّة لا يعني ذلك أنّهم أتباع للمدخلي، أو على قلب رجل واحد، فالانقسامات سمة أساسية في تفاعلات هذا التيار الداخلية، لانعدام القيمة المحترمة في انشغالاتهم، ليصير دورانهم حول ذواتهم، لتحقيق المشيخة التي قوامها الادعاء، وبالتقرّب من أصحاب المفاتيح الأمنية والسياسية، أي بعرض الخدمات على المشغّلين، تساعدهم في ذلك نزعة "التصحيح" الداخلية التي هي جوهر الادعاء السلفي المعاصر، الذي يثير في جملته، على تنوّعاته، سوء الظنّ بعقائد المسلمين، ويشكّ في كونهم يحقّقون التوحيد ويعرفون معنى "لا إله إلا الله"، ومن ثمّ فطرفيّ غلوّه، الجامية والداعشية، يستبيحان الداخل الإسلامي استنادا إلى ذلك التشكيك بصحة اعتقاد الناس ومعرفتهم دينهم.
ولا تخلو الحالة الدينية، من مشارب أخرى، من أصحاب عمائم وأدعياء اشتغال بالعلم الشرعي وأصحاب وظائف دينية؛ من حَمَلة مباخر وخدم للحاكم ومماسح لسياساته على حساب قيم العدل والحقّ والقسط والكرامة والأخوّة الإيمانية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أنّ الصفاقة بحيث تكون ظاهرة عامة، تكاد تنحصر في هذا التيار المنسوب للسلفية، إذ لا يواري ولا يتجمّل ولا تهمّه تناقضاته المكشوفة، ممّا يعني أنّه في جملته أداة أمنيّة تنفّذ وظيفتها كما يراد منها ولا يهمّها بعد ذلك ما يمكن أن يقال عنها، كأيّ أداة أمنيّة أخرى تقتل وتُرهِب وتسجن وتحاصر في الرزق وتمنع من السفر مرتكنة إلى منطق القوّة، فهذه أداة أمنية وتلك مثلها.
ومن نافلة القول التذكير بكون هذا التيار يدور على مقالة واحدة وهي "طاعة ولي الأمر"، ولأنّ هذه المقالة في الصورة التي يرسمها مجرد تعبير أمنيّ، فإنّ ولاية الأمر عنده محصورة بالنظام السياسي المنحدر من النظام الإقليمي العربيّ القديم، ومن ثمّ فإنّ ولاية الأمر لا تَنسحبُ على أيّ قادم جديد للحكم منحدر من جماعة إسلامية يعاديها النظام القائم سليل النظام القديم. فليس تناقضا أن يتمركز هذا التيار حول مقالة طاعة ولي الأمر، ولكنه يعمل على هدم ولي أمر جاء من حماس أو الإخوان المسلمين أو أيّ جماعة أخرى تعاديها الأنظمة المعروفة، كما اتضح ذلك من بعد الثورات العربية، فهذا التناقض الظاهر ليس تناقضا بقدر ما هو التزام بالوظيفة، فكأنما المنتسب لهذا التيار مخبر، وليس داعية فضلا عن أن يكون فقيها، حتى يلتزم الاتساق ويتجنب التناقض ويخشى الله تعالى فيما يقول!
فكأيّ أداة أمنيّة، وظيفة هذا التيار هي الإخضاع، ولأنّ مجاله هو الحقل الديني، فإنّ الإخضاع ينزع نحو تكريس التبعية حتى لا نقول العبودية للحاكم، وللمفارقة، تحت دعوى تحقيق معنى "لا إله إلا الله". وهذا من أعجب وأبشع ما طرأ على الخطاب الديني في الإسلام، إذ كيف تصبح طاعة الحاكم المطلقة، وتسويغ الحرام له، أو منع انتقاده مطلقا، من لوازم "لا إله إلا الله"؟ بل كيف تصير الموضوع الأكثر حضورا في شرح معنى "لا إله إلا الله"؟!
فلمّا كان الأمرُ كذلك، تصير رواية الحاكم السياسية، في أيّ أمر، رواية هذا التيار بتجلياته كلّها وتناقضاته جميعها، ولمّا كان النظام الإقليمي العربي على تبايناته متذيّلا للولايات المتحدة، ومجمعا على كون القضية الفلسطينية عبئا ينبغي التخلّص منها، ومتواطئا في التطبيع مع "إسرائيل"، معاديا لقوى المقاومة، لا سيّما الإسلامية منها، صار ذلك بالضرورة منعكسا في خطابات رؤوس هذا التيار على اختلاف بلدانهم، مع تطابق أكبر مع سياسات الدولة المنشأ لهذا التيار، ليكون الواحد منهم في أيّ بلد كان مخبرا مكعّبا، مرّة لنظامه الأمنيّ، ومرّة للدولة المنشأ، ومرّة بحكم المآل؛ لكلّ قوى الاستكبار والاحتلال والهيمنة العالمية!
ولأنّ سياسات التذيّل للقوى المعادية، تنمّ عن خَوَر وجُبن وانخلاع من قيم الشجاعة والمروءة والشهامة والنخوة، فإنّ العداء لأصحاب تلك القيم من المسلمين يرتفع، للتشويش على حقائق الكرامة والرجولة الظاهرة، فتوصف بالعنتريات والمغامرات والقتال العبثي، فيُستدعى هذا التيار لتأويل ذلك دينيّا، لينتهي به الأمر، بلسان الحال، إلى التغافل عن مقرّرات القرآن كقوله تعالى: "كَم مِن فِئَةٍ قَليلَةٍ غَلَبَت فِئَة كَثيرَة بِإِذنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصّابِرينَ"، والتلبّس بكلّ مقالات النفاق التي فضحها القرآن كقوله تعالى: "الَّذينَ قالوا لِإِخوانِهِم وَقَعَدوا لَو أَطاعونا ما قُتِلوا قُل فَادرَءوا عَن أَنفُسِكُمُ المَوتَ إِن كُنتُم صادِقينَ"، والعودة بالغفلة ودون وعي، للتشكيك بالجهاد النبوي، الذي ما كان له أن يكون في بدر وأحد ومؤتة وتبوك وغيرها؛ إن راجعناه بما يحاكمون به اليوم الفلسطينيين !
وبقطع النظر عن مغالطة بعضهم الكبرى، بدعواهم الحاجة إلى إذن وليّ الأمر ليصحّ جهاد الفلسطينيين، إذ إنّه لا محلّ لذلك صورة وحكما وحقيقة، فلا أولياء أمرهم أولياء أمر للفلسطينيين، ولا أولياء أمرهم يصدق عليهم حكم ولي الأمر الشرعي، ولا في فلسطين وليّ أمر مجمع عليه له حقّ الطاعة، ولا الجهاد الذي في فلسطين مما يحتاج إذن ولي الأمر لكونه دفعا عن النفس والعرض والمال والدين للعدوّ الممتنع بالقوّة المسلحة.
فإنّ جوهر مقالتهم، بترك دفع العدوّ لانعدام التكافؤ أو انعدام الإذن، يعني تأبيد الأمر القائم من غلبة العدو والظلم، في تنكّر كامل لمسار التاريخ، وضرورات التدافع، وبواعث الكرامة، إذ لا يمكن تغيير الوضع القائم دون تدافع لأجل إقامة الحقّ والعدل والقسط والذي هو غاية من إنزال الكتب وإرسال الرسل: "لَقَد أَرسَلنا رُسُلَنا بِالبَيِّناتِ وَأَنزَلنا مَعَهُمُ الكِتابَ وَالميزانَ لِيَقومَ النّاسُ بِالقِسطِ وَأَنزَلنَا الحَديدَ فيهِ بَأسٌ شَديدٌ وَمَنافِعُ لِلنّاسِ وَلِيَعلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالغَيبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزيزٌ"، ليفضي أمر هؤلاء إلى كونهم خدما لقوى الاستكبار والاستعمار والاحتلال والظلم من أعداء الإسلام، فالمُستضعَف وفق منطقهم، سيبقى محلّ الاتهام، لأنّه لو جاهد بالكلمة أو بالحجر أو بالسلاح، إنما يجاهد بما لا يكافئ العدوّ، وهو يُحرج وليّ أمرهم.
فلا معنى، والحالة هذه للوقوف عند اتهامهم لغيرهم بكونهم أتباعا "للمشروع الفارسي" أو "للرافضة"، أو دعوتهم، كما على لسان أحدهم، أبا عبيدة، للجهاد بالسنّة لا السلاح، وهو كلام لا قيمة له، فليس هؤلاء في الموضع الذي يهمّ المرء أن يوضّح فيه سلامة عقيدته وصحّة جهاده، ولكن المهمّ كشف سعيهم لنزع الشرف في التعامل بين البشر، فضلا عن المسلمين.
فبقطع النظر عمّن هم أهل غزّة، وما هي عقيدتهم، ولمن يتبعون، فإنّ كونهم أصحاب أرض أصليين، هُجّر آباؤهم وأجدادهم من الأراضي المحتلّة عام 1948، يجعل نصرتهم حقّا لهم على البشر، فكيف بالمسلمين منهم؟! هذا وهم في أكناف بيت المقدس وجزء من أهل فلسطين، فالسؤال عن العقيدة أو التبعية مجرّد تشغيب، يكشف عنه اتهامهم باستفزاز الإسرائيلي، في نزع كامل للحدث من السياق، كأيّ سياسيّ أو إعلاميّ غربيّ متصهين، يلحّ على كون القصّة بدأت من 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وكأنه لا احتلال قائما، ولا تاريخ للجريمة قبل ذلك!
والحاصل أنّ حصيلة خطاب هذا التيار، هي إساءة الظنّ بعموم المسلمين بما يفضي إلى التفرقة بينهم وتسويغ تخلّي بعضهم عن بعض، وطمس الجهاد، ونزع قيم الكرامة والرجولة من بينهم.
ولأنّه مقذوف من أجهزة الأمن في قلب الحقل الديني، فإنّ خطابه بلسان الحال أو حتى بلسان المقال اعتداء على الله تعالى وكتابه ونبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقد قال أحدُهم مثلا إنّ الله مع أعداء المسلمين كما هو مع المسلمين، زاعما أنّ آيات الجهاد كلّها خُتمت بقوله "يَنصُرُ مَن يَشاءُ"، ليكون قد أتى عظيما من قبيح القول لم يخطر على عقل مسلم قطّ مهما بلغ به الجهل أو السفه، فآيات القرآن نصّت على أنّ الله مع الصابرين والمتقين والمؤمنين والمحسنين، وليس فيها أنّه تعالى مع الظالمين أو الكافرين! وأمّا قوله تعالى "يَنصُرُ مَن يَشاءُ"، فلم تُذيّل بها آيات الجهاد، وإنما ذُكِرت في سياق الحديث عن قتال الروم والفرس لبعضهم! ليكون هذا الرجل المعمم بلحيته الطويلة قد طوّع نصوص القرآن وهو يزعم أنّه فقيه، بل بلغ به الحال أن يسخر ممن يقول إنّ الله تعالى فوق طائراتهم وبوارجهم، فأيّ عقيدة هذه يراد بها من مثل هذا تصحيح عقائد الذين يتوكّلون على ربهم ويستعينون به ويؤمنون بأنّه القاهر فوق عباده، وهم في الوقت نفسه يؤمنون أنّ الأمر كلّه له تعالى يفعل ما يشاء لا يُسأل عمّا يفعل.
وليس ثمّة غاية لمناقشة مثل هؤلاء، إذ كما هو واضح يضطر المرء للتذكير بالبدهيات الدينية والأخلاقية والعقلية والتاريخية، ولكنّه بيان لمستوى الانحطاط، الذي يراد منه تدجين الشعوب واجتثاث إحساسها بكرامتها، ولو بتحريف القرآن كما في المثل المضروب أعلاه!