تشهد مصر منذ أواخر العام الماضي أزمة اقتصادية طاحنة، بسبب شح الدولار في البنوك والأسواق، وانخفاض قيمة الجنيه بصورة كبيرة، وارتفاع الأسعار بشكل لا يقوى عليه غالبية المواطنين.

وتعاني مصر أزمة في إنتاج الثروة الداجنة بسبب ارتفاع تكلفة الأعلاف، مما تسبّب بارتفاع أسعار الدجاج حتى قلّ تقديمها على موائد المواطنين، خصوصًا من هم تحت خط الفقر، الذين تبلغ نسبتهم نحو 30% من السكان بحسب أرقام رسمية.

وأظهرت بيانات للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أمس الاثنين، ارتفاع التضخم في المدن إلى 32.7 بالمئة في مارس على أساس سنوي، وهو ما يقل قليلاً عن أعلى معدل قياسي مسجل حتى الآن.

 

الشراء قبل الغلاء

وعبر العديد من المواطنين أنهم يعمدون إلى شراء السلع قبل ارتفاع ثمنها بعد التعويم الرابع المنتظر، وأنهم يفعلون ذلك طالما توافرت لديهم الأوراق المالية التي تسمح بذلك.

"أصبحتُ حريصًا على شراء ما أحتاجه قبل أن أصل إلى البيت خوفا من ارتفاع الأسعار، إذا عدت لأستريح من العمل"، يقول هشام الذي يسكن في مدينة السادس من أكتوبر بالجيزة، كاشفًا قلقه الدائم من عدم ثبات أسعار السلع الأساسية، وفقًا لموقع "الحرة".

ويوضح هشام (41 عامًا)، "كنت في السابق أعود إلى البيت لأستريح من التعب بعد يوم العمل الشاق ثم أخرج مع زوجتي لنشتري ما نحتاجه، لكن الآن لا نضمن بقاء السعر على حاله، أحيانًا يزداد في اليوم نفسه".

أما هاني (37 عامًا) فيقول إنه تنازل عن أشياء كثيرة ضرورية "لأن قيمة الأموال انخفضت للغاية، والراتب لم يتغير"، مضيفًا "منذ شهرين فقط كان سعر البيضة الواحدة لا يتجاوز جنيهين ونصف، الآن يتعدى سعرها الخمسة جنيهات، طبعًا قللنا من استهلاكنا".

ومن ضمن الأشياء التي تنازل عنها هاني على سبيل المثال، الدجاج واللحوم، مشيرًا إلى أن الكثيرين مثله لن يشتروا اللحوم حتى في عيد الفطر الذي يحل بعد أيام.

 

ارتفاع الأسعار بنسبة 33%

ويقول المحلل الاقتصادي، طارق إسماعيل، إن "هذا يعني أن الأسعار في المتوسط ارتفع سعرها بنسبة 33 في المئة تقريبًا، مقارنة بالوقت نفسه العام الماضي".

ويوضح أن "البنك المركزي يحسب المتوسط، هناك سلع ارتفع سعرها للضعف، وهناك خدمات لم يرتفع ثمنها مثل تذكرة المترو"، مضيفًا أن "أكثر ما يتأثر به الناس هي السلع الأساسية المتمثلة في الطعام والشراب، وهي التي زادت بشكل كبير".

ويضيف: "في نفس الوقت تقريبًا العام الماضي طرحت البنوك الحكومية شهادات استثمار للمواطنين يصل عائدها إلى 18 في المئة، مما يعني أنه حتى الذين وضعوا أموالهم في البنوك خسروا 16 في المئة من قيمة تلك الأموال، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء"، وفقًا لموقع "الحرة".

 

التعويم الرابع قادم

ويأتي ارتفاع معدل التضخم في مصر، في أعقاب سلسلة من إجراءات خفض قيمة الجنيه بدأت في مارس 2022، إلى جانب النقص القائم منذ فترة طويلة في العملة الأجنبية والتأخيرات المستمرة في دخول الواردات إلى البلاد.

وخفضت مصر، التي توصلت لاتفاق بشأن حزمة دعم مالي من صندوق النقد الدولي بقيمة ثلاثة مليارات دولار في ديسمبر، قيمة عملتها إلى النصف أمام الدولار منذ مارس 2022 بعدما كشفت تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا عن نقاط ضعف في الاقتصاد المصري.

وتتوقع أستاذة الاقتصاد بجامعة القاهرة، عالية المهدي، أن "يستمر التضخم في التزايد، خاصة مع بداية تحريك سعر الصرف الجنيه بشكل بطيء منذ يومين، حيث كان الدولار يساوي رسميا 30.62 جنيها وصل اليوم إلى 31.10"، معتبرة أن البنك المركزي ينفذ تعويمًا بطيئًا.

وتقول: "عندما تنخفض قيمة الجنيه مقابل الدولار، فكل شيء سيزيد سعره مرة أخرى في مصر، حتى لو لم يكن هناك سبب موضوعي لذلك، بل إن الأسعار ترتفع بناء على التوقعات".

وبحسب توقعات بنوك عالمية، فإن البنك المركزي سوف يتجه إلى تخفيض رابع لقيمة الجنيه قريبًا، قد يتجاوز سعره حدود الـ35 جنيهًا للدولار.

 

سلوك الناس

ويرى إسماعيل أن "الاقتصاد يتأثر بسلوك الناس أكثر من الأزمات الفعلية".

ويوضح "لو قلنا مثلاً إن هناك أزمة ستحدث في الأرز خلال شهر مايو، فالشعب كله حينها سيخرج وسيشتري أرز يكفيه لمدة سنتين، وبالتالي ستحدث أزمة، الآن الشعب كله ينتظر تعويم الجنيه مرة أخرى، فتحول كل من معه بعض الأموال إلى تاجر دولارات، وكل من معه عشرة آلاف جنيه على سبيل المثال يبحث عمن يشتري منه 300 دولار على أساس أنه سيكسب ألف جنيه، فهذا خلق أزمة، المشكلة في سلوك الناس".

وينصح إسماعيل المصريين بعدم الهلع، وأن يعيشوا حياتهم بصورة طبيعية؛ يقول: "طبعًا من الصعب مطالبة أصحاب الرواتب المحدودة في ظل ارتفاع الأسعار، بعدم الهلع، لكن هذا ينطبق على التجار الذين يخزنون بضاعتهم منتظرين تعويم الجنيه، حتى ترتفع قيمة ما عنده من مخزون".

ويضيف "الأزمة كلنا مخطئون فيها، لا أستثني أحدًا، وبالطبع العاتق الأكبر يقع على الحكومة".

لكن المهدي تقول إن التجار أيضًا من حقهم أن يعيشوا في قلق وترقب، "فلو باعوا البضائع بسعر اليوم والدولار تحرك، فلن يتمكنوا من إحلال هذه السلع"، مستشهدة بأن كثيرًا من تجار السيارات توقفوا عن البيع حاليًا.

وقبل أيام طرح البنك الأهلي المصري، وبنك مصر، شهادات ادخار بعائد يصل إلى 21 في المئة، لكن المهدي تقول إن "على الناس ألا تنجرف بكل أموالها لتشتري شهادات الـ3 سنوات، فهذه الأموال ستفقد قيمتها مع الوقت".

 

ما الخيارات أمام الناس؟

أما الخيارات المطروحة للحفاظ على قيمة الأموال من التضخم المستمر في مصر، فتقول المهدي إن "على كل شخص أن يبحث عن أي استثمار مجز بشرط أن يستطيع التخلص منه وتحويله إلى أموال سائلة عندما يحتاج لها"، معتبرة أن "أقل الأصول سيولة تتمثل في العقارات، وأسهلها هي العملات الحرة والذهب".

وتوضح أنه "لن يستطيع أحد أن يضع كل أمواله في أصول مثل العقارات، لأنه في المستقبل سيكون هناك فائض في المعروض وطلب أقل بكثير، وعندما يريد البيع فلن يستطيع أن يجد مشتر بسهولة، خاصة في ظل منافسة صعبة مع المطورين الذين أصبحوا يبيعون بالتقسيط الممل".

وتضيف أن "الذهب تحول لأن يكون مصدرًا مهم للحفاظ على قيمة الأموال، لكن من يحاول أن يشتريه الآن سيجد صعوبة لأن الناس تتنافس عليه فأصبح شحيحًا في السوق".

بينما لا يشجع إسماعيل الناس بالاستثمار في الذهب مع ارتفاع سعره حاليًا، "أين سيذهب أكثر من ذلك"، لكنه يؤكد أنه يظل خيارًا يحفظ قيمة الأموال، من يشتريه لن يكسب ولن يخسر أيضًا".

ويتفق مع المهدي في أن "قيمة الأموال ستنخفض بالتأكيد، لذا من يستطيع شراء أي شيء فليشتريه الآن، لكن من المهم أن يكون مقتصدًا أيضًا، ويشتري ما هو ضروري فقط، واستثمار أي فرصة لشراء السلع بالتقسيط، إذا كانت من دون فوائد".

وترى المهدي أن معظم المواطنين بات ليس أمامهم خيار سوى تقليل المصروفات "من كان يشتري 5 كيلوجرامات من اللحم مثلا، الآن يشتري الآن 3 وربما أقل في المستقبل، لأنه لن يستطيع الاستمرار بنفس الكمية في ظل راتب محدد. كلنا مضطرون لذلك".

ووفقًا لآخر البيانات الرسمية لعام 2021، بلغ متوسط الراتب الشهري في مصر 4000 جنيه (129 دولارًا تقريبًا).

ومع معدّل التضخم المرتفع وخسارة العملة المحلية لأكثر من نصف قيمتها أمام الدولار الأمريكي، تضاعف سعر الكيلوجرام لأقل أنواع اللحوم الطازجة ثمنًا، التي يطرحها الجيش في الأسواق، ليبلغ 220 جنيهًا، أي ما يعادل أكثر من 18 في المئة من قيمة متوسط الأجر الشهري للمصريين.