نواصل الرحلة مع مذكرات العلامة الدكتور يوسف القرضاوي والتي انتهى عندها بحصوله على الدكتوراه من جامعة الأزهر بعد سنوات عانى فيها الظلم والاعتقال والحرمان من زيارة الوطن، وبعد انتهاء محنة هي الأكبر في تاريخ مصر بعد ثورة 23 يوليو بعدما زج عبدالناصر بآلاف المصريين في السجون وأذاقهم أشد العذاب ليعترفوا بجرائم لم يرتكبوها، لتنتهي هذه المحنة بموت عبدالناصر، ويخرج الإخوان مرة أخرى إلى ساحة الدعوة، متسلحين بالإيمان والقرآن، بعدما تفشت العلمانية في المجتمع المصري وما ترتب عليه هزيمة 67، لينشروا الدعوة الوسطية بين المواطنين، وهو ما ترتب عليه الحالة المعنوية التي ظهر عليها الجنود في حرب 73 وانتهت بنصر مبين، واليوم نتحدث عن حلقة جديدة من مذكرات القرضاوي "ابن القرية والكتاب.. الجزء الثالث".


وفاة الأستاذ الهضيبي
يروي العلامة القرضاوي في مذكراته أن الحدث الأبرز الذي أثر فيه بعد فرحة انتصار أكتوبر 73 هو موت الأستاذ حسن الهضيبي المرشد الثاني لجماعة الإخوان المسلمون، حيث خرج الهضيبي لأداء الحج عام (1392هـ - 1972م)، لينضم إلى الآتين من كل فج عميق {لِّيَشۡهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمۡ وَيَذۡكُرُواْ ٱسۡمَ ٱللَّهِ فِيٓ أَيَّامٖ مَّعۡلُومَٰتٍ} [الحج: 28].
وكان من المنافع المشهودة في ذلك الموسم: أن لقيه الإخوان الذين قدموا من أقطار شتى من أنحاء العالَم.
ولم يقدر للقرضاوي أن يذهب إلى الحج في هذا الموسم، إذ لم يكن لديه علم بأن "الأستاذ" ينوي السفر إلى الحج، وهكذا قدر الله أن لا يرى المرشد في الحج، ولا ما بعد الحج، حتى وافاه الأجل في 14شوال سنة (1393هـ) - الموافق (11) من نوفمبر سنة (1973م).


القرضاوي يدخل  التليفزيون المصري لأول مرة
ويضيف الشيخ يوسف القرضاوي: "في صيف سنة (1974م)، دخلت مقر التليفزيون المصري في القاهرة لأول مرة، لأسجل مع الإعلامي الذائع الصيت، الأستاذ أحمد فراج، ثلاث حلقات في برنامجه الشهير «نور على نور»، الذي كان يستضيف فيه كبار علماء الأمة أول ما ظهر، مثل المشايخ: الشعراوي، وأبي زهرة، والخفيف، والمدني، وفرج السنهوري، وغيرهم. وقد اتصل بي الأستاذ فراج، قائلا إن كثيرين في مصر والوطن العربي، كتبوا إلينا يعتبون عدم استضافتك ضمن العلماء الذين يظهرون في هذا البرنامج، وتعلم أن المانع هنا كان مانعًا سياسيًّا أو قل: أمنيًّا. والحمد لله، الآن الجو هادئ ومناسب لظهورك دون أدنى حرج إن شاء الله".
وكانت الحلقات التي سجلتها عن «الزكاة» بمناسبة ظهور كتابي: «فقه الزكاة»، وانتشاره في الأوساط العلمية، واعتماده مرجعًا لدى رجال الشريعة ورجال المالية والاقتصاد، وكان صدى هذه الحلقات طيبًا لدى جمهور الناس.

 

زيارة دول الشرق الأقصى

وأشار الدكتور القرضاوي إلى جولاته الدعوية في الشرق الأقصى قائلا: "قبل أن تنتهي الإجازة الصيفية، وفي الشهر الثامن «أغسطس» سنة (1974م) قمت بأول زيارة لبلاد الشرق الأقصى: ماليزيا، وإندونيسيا، وسنغافورة، وهونج كونج، والفلبين، وكوريا الجنوبية، واليابان. وقد استغرقت هذه الرحلة حوالي ثلاثة أسابيع، كما هو مسجل في جواز سفري القطري الذي سافرت به، وهذه بلاد سأزورها لأول مرة، فما أشوقني إلى رؤيتها، ومعرفة أحوالها. وقديمًا قالوا: السفر نصف العلم!

كانت الزيارة بتكليف من الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، أمير البلاد، وكان ذلك بطلب من المسلمين في جنوبي الفلبين أن نزورهم، ونزور معاهدهم ومدارسهم ومؤسساتهم، فقام وفد من قطر مكون من فضيلة الشيخ عبد الله الأنصاري، ويوسف القرضاوي، والأستاذ سيد أبو يوسف موجه اللغة الإنجليزية مترجمًا لنا، أمر الشيخ خليفة لكل منا بخمسة آلاف ريال للإنفاق منها على الإقامة والمعيشة.

 

التفرغ لكليتي التربية

بعد رحلته القصيرة المدة طويلة الاستفادة والنفع ، اتخذ الإمام القرضاوي قرارًا بالتفرغ للتدريس في كلية التربية، قائلا: "قررت في سنة (1974 - 1975م) أن أدع المعهد لأحد إخواني يقوم على إدارته، لأتفرغ لكليتي التربية - وقد زادت سنة، فأصبح الطلاب والطالبات الذين نجحوا فيها في السنة الثانية، وإن كان نظام الكلية لا يحسب بالسنوات، ولكنه يحسب بالساعات المكتسبة".
بعد سنتين في الكلية أحسست بفارق الدرجات في الكادر الجامعي، فدرجة المدرس غير درجة الأستاذ المساعد، وهي غير درجة الأستاذ، وقد كنت عينت بدرجة أستاذ مساعد، ولم أبال بذلك يومها، ثم تبين الفرق بينها وبين درجة الأستاذ، لا في الناحية المادية فحسب، ولكن في القيمة الأدبية.

وتحدثت مع  الدكتور كاظم، وقال: نزور معًا: الشيخ قاسم بن حمد وزير التربية، والرئيس الأعلى للجامعة في ذلك الوقت ونكلمه في هذا الأمر، فكانت استجابة الرجل أسرع مما توقعنا، وقال له: يا دكتور كاظم، الشيخ يوسف عندنا شيخ الأساتذة! وما هي إلا أيام حتى صدر القرار بتعييني في درجة أستاذ".

 

تأسيس أول بنك إسلامي في دبي

في سنة (1975م) أعلن في إمارة دبي عن تأسيس أول «بنك تجاري إسلامي» أي لا يتعامل بالفوائد الربوية أخذًا ولا إعطاءً، ويلتزم أن يجري معاملاته وفق أحكام الشريعة الإسلامية وقواعدها؛ إنه «بنك دبي الإسلامي». كان إعلان ذلك حدثًا في التاريخ الاقتصادي للأمة، يعد انتصارًا لها في معركة من أخطر المعارك التي تخوضها، لتحرر اقتصادها من رجس الربا، ومن هيمنة الاقتصاد الرأسمالي بفلسفته وتطبيقاته - منذ عصر الاستعمار - على جميع مصارفها ومؤسساتها المالية. ولقد كان إنشاء بنك بلا فائدة حلمًا، فأصبح اليوم حقيقة!

 

شركة الاستثمار الخليجي

ويستطرد: "بدأت فكرة البنوك الإسلامية تتسع، فأنشئ «بنك فيصل الإسلامي» في مصر، و «بنك فيصل الإسلامي» في الخرطوم، وكان يرأس مجلس إدارة كل منهما: الأمير محمد الفيصل آل سعود، الذي تبنى فكرة البنوك الإسلامية، وخدمها ورعاها بماله ونفوذه، ورأى أن يخلد ذكر أبيه، الملك المحبب لدى جمهور المسلمين: «فيصل بن عبد العزيز» بأن ينشئ سلسلة من البنوك الإسلامية تحمل اسمه، فنشأ البنكان في مصر والسودان.

ثم اقتُرِح على الأمير محمد: أن يؤسس في أقطار الخليج العربي، شركة للاستثمار، تجمع فيها أموال من لديه مدخرات يحب أن يستثمرها في الحلال المشروع. فكثير من الناس يجمد أمواله، ولا يستثمرها في حرام. فهذه الشركة فرصة تتيح للناس أن يستثمروا أموالهم وفق صكوك للمضاربة لمدة سنة، أو ثلاث سنوات، ثم يستردونها.

وقامت حملة إعلامية كبيرة لهذه الشركة، ومر الأمير محمد الفيصل ببلاد الخليج: الكويت، والبحرين، والإمارات، ثم قطر، للدعاية لهذه الشركة الوليدة، وكان معه الأستاذ الدكتور عبد العزيز حجازي، رئيس مجلس الوزراء المصري سابقًا، والشيخ محمد خاطر مفتي مصر سابقًا، والدكتور إبراهيم كامل، أحد رجال المال والأعمال المرموقين، والذي يقيم بجنيف بسويسرا.

وقبل أن يصلوا إلى قطر، اتصلوا بي، وطلبوا مني أن أشد أزرهم في مسيرتهم، فقلت لهم: أنا معكم في وجهتكم في المعركة ضد الربا. فقالوا: نريدك أن تنضم إلينا وتكون أحد المتحدثين الرئيسيين في بلاد الخليج، فوافقت على ذلك ... وأقيمت ندوة حافلة حاشدة في فندق الخليج في قطر، في إحدى القاعات الكبرى، وقد ازدحمت على آخرها. تحدث الأمير محمد والشيخ خاطر والدكتور حجازي، ثم تحدثت بكلمة قوية شدت الجماهير إليها، ثم بدأ الناس يسألون ويستفسرون، وتجيبهم المنصة عن أسئلتهم.

وبعد أن قامت الشركة، رأى الأمير محمد الفيصل والمسئولون عن الشركة: أن يؤسسوا لها هيئة رقابة شرعية، تكون موضع ثقة عند الناس، وقد طلبوا مني أن أشارك فيها، فاعتذرت، ولكنهم ألحوا عليَّ لكي تنجح الفكرة، فقبلت، وشكلت هيئة، كان رئيسها: الشيخ المفتي محمد خاطر، وأعضاؤها: الشيخ صديق الضرير، والشيخ عبد الله بن علي المحمود عالِم الشارقة، ويوسف القرضاوي.

وكان مقر الشركة في ولاية الشارقة، وقد دعينا لافتتاحها هناك، وكان في يوم الخميس، وقد بتنا هناك وخطبت الجمعة في مسجد الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة وبحضوره، وقد دعانا للغداء عنده، وكان نجاح هذه الشركة حافزًا للتفكير في تأسيس شركة أكبر وأوسع، وهي التي سميت: «دار المال الإسلامي» التي قامت في جنيف، ويديرها: د. إبراهيم كامل، وسيأتي لها حديث يخصها في حينه".

 

عضوية مجلس إدارة بنك فيصل المصري

ويستعرض الشيخ القرضاوي قصة تلك العضوية قائلا: "فوجئت في أمسية يوم من الأيام باتصال من الأخ الصديق المهندس يوسف ندا، أظنه كان من القاهرة، وقال: إننا نريد أن تكون معنا في مجلس إدارة «بنك فيصل الإسلامي المصري»، وبعد مشوارات معه أخذت قراري بالانضمام لهم.
عضوية المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
وفي شهر ذي القعدة من سنة (1395هـ - 1975م) وصلتني رسالة من فضيلة الشيخ الدكتور عبد المحسن بن حمد العباد، نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تفيد بأنه صدر الأمر الملكي رقم (أ/233) في (29/9/1395هـ) بتعييني عضوًا بالمجلس الأعلى للجامعة الإسلامية - بالمدينة المنورة - لمدة ثلاث سنوات طبقًا للمادة (13) من نظام الجامعة".

 

المؤتمر العالمي الأول في الاقتصاد الإسلامي

ويضيف: "كان من أهم المؤتمرات العالمية التي شاركت فيها بالبحث والمناقشة والمحاضرة: المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي، الذي عقد بالمملكة العربية السعودية، والذي جسد الصحوة الإسلامية في تلك المرحلة، في ميدان من أخطر الميادين التي غزتها الثقافة الغربية، وهو ميدان الاقتصاد.
أقيم المؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي في مكة المكرمة، في الفترة ما بين (21 - 26 صفر 1396هـ)، الموافق (21 - 26 فبراير 1976م). تحت رعاية جامعة الملك عبد العزيز، وكانت الجامعة تضم كليات في جدة، وأخرى في مكة، وهي التي استقلت بعد ذلك، وضمت إليها كليات جديدة، وبها ظهرت جامعة أم القرى".

 

اجتماع تاريخي للإخوان معي

وتحدث العلامة عن اجتماع تاريخي بينه وبين قادة جماعة الإخوان المسلمين في عام 1976، وذكر أنه التقى خلال المؤتمر ثلاثة من كبار الإخوان، هم الأستاذ هارون المجددي، الذي كان مسؤولا عن الإخوان المصريين في الخارج أيام محنة (1965م) وأعقابها، والأستاذ صالح أبو رُقَيِّق عضو مكتب الإرشاد، وأحد القيادات التاريخية في الإخوان، والذي كان قريبًا من الأستاذ الهضيبي، والأستاذ محمود أبو السعود عضو الهيئة التأسيسية، وأحد الإخوان القدامى، والاقتصادي الإسلامي البارز، وقد عرضوا عليَّ أمرًا في غاية الأهمية..

قالوا: إن الأستاذ الهضيبي المرشد الثاني للإخوان قد انتقل إلى رحمة الله تعالى، وأصبحت الجماعة في فراغ من القيادة، والإخوان في هذه المرحلة في حاجة إلى قيادة شابة واعية مؤمنة، تجمع بين فقه الشرع، وفقه العصر، والإخلاص للدعوة، وتجتمع عليها كلمة الإخوان، ولم نجد أحدًا تجتمع فيه هذه الصفات غيرك، ونحن نتحدث بلسان من وراءنا من الإخوان، وهم كثيرون، فإن كنت حريصًا على مصلحة الدعوة التي نشأت فيها، وأفنيت زهرة شبابك في إعزازها ونشرها والذود عنها، حريصًا على جمع كلمة أبنائها، حريصًا على أن تستمر الدعوة وتتقدم إلى الأمام بوعي وبصيرة وثبات وقوة، فتوكل على الله، واقبل هذا الأمر، محتسبًا عند الله، مبتغيًا الأجر منه، لتكمل الطريق الذي بدأه حسن البنا، وخلفه حسن الهضيبي! واستمر الإخوة يتحدثون بعضهم وراء بعض، ليقنعوني بقبول ما عرضوه عليَّ، وأن في ذلك الخير للإسلام ودعوته وأمته إن شاء الله، وإنما لكل امرئ ما نوى.

قلت للإخوة: إن ما عرضتموه عليَّ ليس بالأمر الهين، بل هو أمر جلل، وهو قيادة دعوة عالمية في ظروف غير مواتية، وقد فاجأتموني بهذا الطلب، الذي ما فكرت فيه قط، فما كنت في الجماعة إلا جنديًّا من جنودها، لم أتطلع يومًا إلى زمام القيادة، لتكون في يدي، وهذه منة من الله عليَّ، أني لست من الذين يجرون خلف سراب الزعامة، وكأنها طبيعة فيَّ لا متكلفة ولا مفتعلة.
قال الإخوة: وهذا مما يزيدنا تمسكًا بك، وإصرارًا عليك، وأنت تعرف الحديث الذي يقول ما معناه: «إن أعطيتها بغير سؤال أعنت عليها، وإن أخذتها بسؤال وكلت إليها».
قلت لهم: أعطوني مهلة أفكر فيها على مهل، أشاور نفسي، وأراجع حساباتي، وأستخير ربي، وأستشير بعض إخواني، ثم أرد عليكم. وإن كنت مبدئيًّا لا أراني أهلًا لهذا الأمر.
قالوا: نعطيك شهرين للتفكير والمراجعة.


القرضاوي يعتذر عن قبول منصب المرشد 

وردا على الدعوة يقول القرضاوي: "بعد الاستشارة والاستخارة  قررت الاعتذار عن قبول منصب المرشد العام وأرسلت رسالة مفادها: إني أعتقد أن من مصلحة الدعوة التي أنتمي إليها، ومصلحة الإسلام عامة، الذي نذرت نفسي لخدمته: أن أظل مشتغلًا بالعلم وبالبحث، لإتمام ما عندي من مشروعات علمية أراها مهمة ونافعة إن شاء الله.
وقد أتيح لي الآن - من خلال موقعي ومعرفة الناس بي - أن أتصل بالمجتمعات العلمية في مؤتمرات عربية وإسلامية وعالمية شتى. ومن الخير أن يستمر هذا الاتصال بعد أن فرضت على العزلة مدة طويلة في مكان قصي منعزل.
إن جماعتنا لم تخل - ولن تخلو إن شاء الله - من الكفايات القادرة على قيادة السفينة بقوة وأمانة، ولن تعدموا «القوي الأمين» أو «الحفيظ العليم» في صفوف الحركة، بعون الله.
والله يتولى الجماعة ويرعاها بعينه التي لا تنام، وهو ولي الصالحين.
أخوكم
يوسف القرضاوي
وقد علق الأستاذ محمود أبو السعود برسالة، جاء فيها:
الأخ الكريم فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي
وعليكم من الله السلام والرحمة والبركات - أعزك الله، ونفعك ونفع بك، وأعانك على ما فرغت له نفسك من خير وعلم، وجعلك أبدًا مهوى القلوب، ومقصد الحق، وواسطة عقد الأخلاء.
يا أخي: «لقد أسكتت جهيزة قول كل خطيب» ولم يعد لي ما أقول، وما حدثتك فيه أمر تمناه غيري كما تمنيته، أما وقد قطعت فيه برأي، فالخيرة ما اختاره الله. وإني لأعلم - كما تعلم أنت - أن ليس لما دعوناك إليه من يرتضيه الخاص والعام غيرك، ولا من أوتي ما أوتيته من تجرد وفضل، وعلم وخلق، لا أمتدحك سعيًا وراء مغنم، وإنما هكذا عهدناك وخبرناك. والأغلب أن يظل الوضع الراهن كما هو، حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا. على كل حال يا أخي شكر الله لك، وجزاك بنيتك أضعاف ما يجزيك بحس عملك.
   الفقير إلى ربه
محمود أبو السعود
20 ربيع أول سنة 1396هـ
20/4/1976م

 

عودة لقطر وجامعاتها
وقد صدر القرار الأميري في أواخر سنة (1976 - 1977م) الدراسية بإنشاء جامعة قطر، التي تبدأ بكليات أربع، هي:

1 - كلية التربية.

2 - كلية الشريعة والدراسات الإسلامية.

3 - كلية العلوم.

4 - كلية الإنسانيات والعلوم الاجتماعية.

وفي قانون تأسيس الجامعة: أكد بصورة واضحة: هويتها الإسلامية، وانتماءها العربي، وجمعها بين الأصالة والمعاصرة.

وأصبح الدكتور كاظم مدير الجامعة، أما الرئيس الأعلى للجامعة، فهو أمير البلاد نفسه الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، وقد كلفت بإعداد كل ما يلزم لتأسيس كلية الشريعة، ووضع المناهج اللازمة لها، لتخريج العالم الشرعي المسلم.


زيارة السادات لإسرائيل وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد

ويضيف: "سببت هذه الاتفاقية في شق العالم العربي وتمزيقه إلى من يؤيد السلام مع الصهاينة، ومن لا يؤيده بحال، إلى من يسمى الاستسلام حكمة، والمقاومة حماقة! وكان ذلك بداية انقسام عربي، وتصدع في الجدار العربي لم يلتئم حتى اليوم. وكذلك انقسم الناس داخل مصر نفسها، فالمؤمنون بالإقليمية يقولون: إن مصر حققت نصرًا بلا حرب، وحررت سيناء بلا دماء، وتفرغت للبناء الداخلي، بعد أن خاضت أربع حروب من أجل فلسطين.

والعروبيون والإسلاميون يقولون: إن مصر فقدت دورها القيادي في الوطن العربي، وأمست في موضع التهمة، بعد أن كانت في موضع الريادة، وفتحت الباب لأمريكا للتدخل في توجيه المنطقة العربية سرًّا وعلانية، وأدت إلى كل ما جرى بعد ذلك من هزائم ونكبات من فلسطين إلى العراق. وقد لاحظت هذا الانقسام المؤلم بنفسي، وساءني أن أجده في شتى المجالس والأندية والاتجاهات، ولا أملك أمامه إلا الحوقلة والاسترجاع".


التصدي لتيار التكفير في مصر
ويستطرد الشيخ قائلا: "في هذه الآونة لاحظ المراقبون للتيارات الفكرية في مصر - وخصوصًا الدينية منها - بروز تيار «التكفير»، أعني: الذي يغلو ويتوسع في رمي المسلمين بتهمة الكفر والمروق من دين الإسلام، أو عدم الدخول فيه أصلًا، وهو أمر جديد لم يكن معروفًا بهذه الحدة في مصر من قبل. وقد شغل تيار التكفير مصر مدة من الزمن، واستطاع أن يؤثر في مجموعة من الشباب الذي غلبت عاطفته على عقله، وكانت حماسته أكبر من فقهه. فأمسوا يكفرون الناس بالجملة، حتى كفروا آباءهم وأمهاتهم، وإخوانهم وأخواتهم، وكفروا علماء الدين من الوعّاظ والخطباء، وأئمة المساجد. بل كفر بعضهم المسلمين بعد القرن الرابع الهجري إلى اليوم!!

وقد ذكرت في كتابي: «الصحوة الإسلامية بين الجمود والتطرف»: كيف تسرب هذا الفكر إليهم. إنهم يقولون: إنهم أخذوه عن سيد قطب رحمه الله، وربما وجدوا في نصوصه في عدد من كتبه - وخصوصًا «الظلال» و«المعالم» - ما يؤيد وجهة نظرهم. ولكن الذي مهد لدخول هذا الفكر إلى رؤوسهم، وقربه إلى عقولهم، هو: العذاب الذي قاسوه في السجن الحربي. ولم يكن هذا التيار بالضخامة التي تصورها أجهزة الإعلام الرسمية، ولكن يبدو أن لهذه الأجهزة هدفًا من وراء هذا التضخيم والتهويل. لعل ذلك لتضرب به التيارات الأخرى الأقدم وضعًا، والأطول عمرًا، والأرسخ قدمًا، والأوسع قاعدة، مثل تيار الإخوان المسلمين.
ثم  كتبت رسالتي التي سميتها: «ظاهرة الغلو في التكفير». وقد نشرت الموضوع قبل ذلك في الجزء الأول من كتابي: «فتاوى معاصرة»، كما نشرته قبل ذلك في مجلة «المسلم المعاصر»، ثم نشرته في رسالة مستقلة بعد إضافات مهمة إليها. وقبل ذلك ناقشت هذه القضية مع شباب الجماعات الإسلامية، التي ساد فكرها الجامعات المصرية، وكان يغلب عليها خط التشدد في أول الأمر، ثم لم يزل العلماء المعتدلون يوالونهم بنصائحهم ومحاضراتهم ولقاءاتهم، حتى مالوا إلى الاعتدال.
ومما سرني وأثلج صدري: أن شباب الجماعة الإسلامية في جامعة القاهرة، تبنّوا رسالتي، ونشروها في سلسلة إصداراتهم التي تظهر بعنوان: «صوت الحق»، وقد طبعوا منها عشرات الآلاف، وكانت تباع بمبلغ (12) قرشًا، فالحمد لله: أن الشباب أنفسهم هم الذين أصبحوا يطاردون الغلو، ولا سيما الغلو في التكفير، الذي أمسى له جماعة تتحدث باسمه وتجتهد في إشاعته وتسعى لتبريره".