نقصد بذلك أن نزن الأشخاص والأفعال بميزان الحسنات والسيئات، والإيجابيات والسلبيات، فإذا رجحت الحسنات على السيئات حُمِدَ صاحبها، وإذا رجحت السيئات على الحسنات، ذُمَّ صاحبها.

إن الله تعالى يحاسب الناس يوم القيامة بهذا الميزان، كما قال تعالى: "فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون. ومن خفّت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جنهم خالدون" (المؤمنون 102-103).

يقول الإمام ابن تيمية ناصحاً تلميذه ابن القيم: "واعلم أن من قواعد الشرع والحكمة أيضاً، أن من كثرت حسناته وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يُحتمل له ما لا يحتمل لغيره، ويُعفى عنه ما لا يعفى عن غيره، فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قُلتين لم يحمل الخبث" (جاسم المهلهل، للدعاة فقط، ص 83).

وقال سعيد بن المسيب: "إنه ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تُذكر عيوبه، ومن كان فضله أكثر من نقصه وُهب نقصه لفضله".

وقد وضع الإمام السبكي في طبقات الشافعية قاعدة ذهبية في تجريح العلماء، إذ قال: "الصواب عندنا أن من ثبتت إمامته وعدالته، وكثر مادحوه ومزكوه، وندر جارحه، وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصب مذهبي أو غيره، فإنا لا نلتفت إلى الجرح فيه، ونعمل فيه بالعدالة، وإلا فلو فتحنا هذا الباب أو أخذنا تقديم الجرح على إطلاقه لما سلم لنا أحد من الأئمة، إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون، وهلك فيه هالكون" (البلالي، فقه الدعوة في إنكار المنكر، ص 110).

ويقول الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عند ترجمته للقفال الشاشي: " قال أبو الحسن الصفار: سمعت أبا سهل الصعلوكي، وقد سئل عن تفسير أبي بكر القفال، فقال: قدِّسه من وجه، ودنسه من وجه، أي: دنسه من جهة نصره للاعتزال".

قلت – أي الذهبي-: قد مرّ موته، والكمال عزيز، وإنما يمدح العالم بكثرة ما له من الفضائل، فلا تدفن المحاسن لورطة، ولعله رجع عنها، وقد يغفر الله له باستفراغه الوسع في طلب الحق، ولا قوة إلا بالله" (السير: 16 / 285).

ويقول كذلك الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في معرض الحديث عن محمد بن أحمد بن يحيي العثماني (وهو من غلاة الأشاعرة، كما ذكر ذلك ابن الجوزي): "ونحب السنة وأهلها، ونحب العالم على ما فيه من الاتباع والصفات الحميدة، ولا نحب ما ابتدع فيه بتأويل سائغ، وإنما العبرة بكثرة المحاسن".

ويقول أيضاً الإمام الذهبي في ترجمة الإمام ابن حزم: " قيل إنه تفقه أولاً للشافعي، ثم أداه اجتهاده إلى القول بنفي القياس كله، جليه وخفيه، والأخذ بظاهر النص وعموم الكتاب والحديث، والقول بالبراءة الأصلية واصطحاب الحال، وصنف في ذلك كتباً كثيرة، وناظر عليه، وبسط لسانه وقلمه ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب، بل فجج العبارة، وسب، وجدع".

فكان جزاؤه من جنس فعله، بحيث إنه أعرض عن تصانيفه جماعة من الأئمة، وهجروها ونفروا منها، وأحرقت في وقت، واعتنى بها آخرون من العلماء، وفتشوها انتقاداً واستفادة، وأخذاً ومؤاخذة، ورأوا فيها الدر الثمين ممزوجاً في الرصف بالخرز المهين، فتارة يطربون، ومرة يعجبون، ومن تفرده يهزؤوه.

وفي الجملة فالكمال عزيز، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ينهض بعلوم جمة، ويجيد النقل، ويحسن النظم والنثر، وفيه دين وخير ومقاصد جميلة، ومصنفاته مفيدة، وقد زهد في الرئاسة، ولزم منزله مكباً على العلم، فلا نغلو فيه، ولا نجفو عنه، وقد أثنى عليه قبلنا الكبار" (السير: 18 / 186 – 187).

ويقول ابن رجب الحنبلي في كتابه القواعد (ص: 3): " والمنصف من اغترف قليل خطأ المرء في كثير صوابه".

ويقول صاحب "منهج أهل السنة والجماعة في النقد والحكم على الآخرين ": " ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام نفيس جداً، يتضح فيه المنهج الصحيح في الحكم على الآخرين، وخاصة العلماء والقدوات، وإثارة الشبهات حولهم، ورميهم بالاتهامات والنقائص، حتى لو أخطأوا في بعض مسائل الاعتقاد.

فيقول رحمه الله في معرض حديثه عن أبي ذر عبد الله بن أحمد بن محمد بن عبد الله غفير الهروي الأنصاري وهو غير أبي ذر الصحابي، وتوفى سنة 434هـ، وصنف مستخرجاً على الصحيحين، وهو حافظ ثقة، فقيه مالكي، غير أنه أخذ شيئاً من المعتزلة، فيقول الإمام ابن تيمية في كتابه درء تعارض العقل والنقل (2/101-103):

" قلت: أبو ذر فيه من العلم والدين والمعرفة بالحديث والسنة وانتصابه لرواية البخاري عن شيوخه الثلاثة، وغير ذلك من المحاسن والفضائل ما هو معروف به، وقد كان قدم إلى بغداد من هراة، فأخذ طريقة ابن الباقلاني، وحملها إلى الحرم، فتكلم فيه وفي طريقته من تكلم، كأبي نصر السجزي وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني، وأمثالهما من أكابر أهل العلم والدين بما ليس هذا موضعه، وهو ممن يرجح طريقة المبغي والثقفي على طريقة ابن خزيمة وأمثاله من أهل الحديث.

وأهل المغرب كانوا يحجون، فيجتمعون به، ويأخذون عنه الحديث وهذه الطريقة، ويدلهم على أصلها، فيرحل منهم من يرحل إلى المشرق، كما رحل أبو الوليد الباجي، فأخذ طريقة أبي جعفر السمناني الحنفي- صاحب القاضي أبي بكر- ورحل بعده القاضي أبو بكر ابن العربي، فأخذ طريقة أبي المعالي في الإرشاد.

ثم إنه ما من هؤلاء إلا له في الإسلام مساع مشكورة وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من الإلحاد والبدع والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم وتكلم فيهم بعلم وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء، احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك:

     منهم من يعظمهم، لما لهم من المحاسن والفضائل.

     ومنهم من يذمهم، لما وقع في كلامهم من البدع والباطل.

وخيار الأمور أوساطها، وهذا ليس مخصوصاً بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات ويتجاوز لهم عن السيئات " والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربَّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ". (الحشر: 10)

ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخطأ في بعض ذلك، فالله يغفر له خطأه، تحقيقاً للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ". (البقرة: 286)

وقال كذلك الذهبي – رحمه الله تعالى- في ترجمة الفضيل: " قلت: إذا كان مثل كبراء السابقين قد تكلم فيهم الروافض والخرارج، ومثل الفضيل يتكلم فيه، فمن الذي يسلم من ألسنة الناس، لكن إذا ثبتت إمامة الرجل وفضله، لم يضره ما قيل فيه، وإنما الكلام في العلماء مفتقر إلى وزن بالعدل والورع " (السير: 8 / 448).

.........................................

(*) يبدأ موقع "نافذة مصر" في نشر مقالات لمدرب التنمية البشرية د. علي الحمادي (فك الله أسره)