قطب العربي:

 

 
في العام 1972، كتب الأديب الكبير توفيق الحكيم كتابه “عودة الوعي” الذي أثار في حينة موجة كبيرة من الجدل والنقاش، لأنه فتح العيون على رواية جديدة لأحداث قديمة، اقتصر نشرها من قبل على رواية واحدة هي رواية السلطة الجديدة التي حكمت مصر بعد الإطاحة بالنظام الملكي، وتدشين جمهورية الضباط في 23 يوليو/تموز 1952، وقد غطى الكتاب -الذي هو مذكرات شخصية لصاحبه حجبها لوقت طويل حتى تسربت رغما عنه- الفترة من يوليو 1952 حتى يوليو 1972، مقدّما منظورا مختلفا للأحداث التي جرت خلال تلك الفترة، وكانت روايته صادمة للكثيرين الذين رسخت في أذهانهم رواية السلطة السابقة التي قدّمت الكثير من حالات الفشل باعتبارها نجاحا منقطع النظير إلخ.

 

 
كان كتاب أو مذكرات الحكيم باكورة لكتابات أخرى سمح بها وشجع عليها العهد الجديد (عهد أنور السادات)، وتجسدت بعض تلك الكتابات في أعمال درامية قدّمت رواية جديدة للشعب المصري عن أحداث سابقة، وإن تركزت على الإدارة القمعية والفاشلة للشأن الداخلي، وعمليات التعذيب الوحشية للسجناء السياسيين إلى حد قتلهم بالرصاص الحي تأديبا لهم لتمردهم على التعذيب نفسه. (القمع الشديد عاد مجددا وأكثر بشاعة بعد 2013 وحتى الآن).

 

 
استكمال مسيرة “عودة الوعي”

 

 
من حسنات الربيع العربي -وفي القلب منه الثورة المصرية- أنه استكمل رحلة “عودة الوعي” في القضايا الأكثر حساسية التي لم يجرؤ الكتّاب على طرحها من قبل خاصة تلك التي تتعلق بالقوات المسلحة، أو تم التطرق إليها بخجل، ومن ذلك ميزانياتها ومشروعاتها وصفقاتها التسليحية، وكذا إدارتها المباشرة وغير المباشرة للكثير من أوجه النشاط السياسي والاقتصادي والاجتماعي في البلاد، وما كان يجري في دهاليز الحكم الاستبدادي على مدار عقود ماضية.

 

 
هزيمة الخامس من يونيو/حزيران 1967 التي نعيش ذكراها الخامسة والخمسين هي واحدة من الأحداث الكبرى التي يتزايد اهتمام المصريين بمعرفة خلفياتها وتفاصيل ما جرى فيها وكيف جرى، ومن هم المتسببون الحقيقيون في النكسة التي لا نزال نعيش تداعياتها حتى اليوم، وما يساعد على مزيد من الفهم لما جرى هو تدفق المعلومات، ومجانيتها من مصادر مختلفة لم تكن متاحة، أو كان الوصول إليها صعبا من قبل، ومن ذلك مذكرات وكتابات وشهادات قيادات سياسية وعسكرية دولية كانت على صلة بالأحداث، وحتى مذكرات قادة العدو أنفسهم.

 

 
أزمة الرواية الأحادية

 

 
لقد ظل الشعب المصري أسير رواية واحدة عن الهزيمة قدّمتها باعتبارها مجرد نكسة طارئة، كما ظل الشعب أسير الرواية الواحدة أيضا لحرب الاستنزاف التي استمرت عقب الهزيمة حتى العام 1970 (حرب الألف يوم) التي تم تقديمها للشعب باعتبارها من مفاخر العسكرية المصرية بينما امتلأت بالعديد من المخازي العسكرية.

 

 
لا ننسى العمليات البطولية المصرية خلال حرب الاستنزاف، ومنها معركة رأس العش، وشدوان، وإغراق المدمرة إيلات، وتفجير ميناء إيلات، وإغراق الحفار، والأهم بناء حائط الصواريخ تحت القصف الإسرائيلي، لكن لن ننسى أيضا قتل الفريق عبد المنعم رياض بينما كان في مهمة تفقدية للجبهة، وكان قتله نتيجة معلومات عملاء مصريين للإسرائيليين مكنتهم من تحديد مكانه بدقة والتصويب عليه مباشرة، ولن ننسى العمليات العسكرية الإسرائيلية في العمق المصري في القاهرة (شرقها وغربها وشمالها وجنوبها) والدلتا والصعيد، والسويس والتل الكبير، وأنشاص وبلطيم والدقهلية ودمياط والإسماعيلية ودهشور وأسيوط حيث بلغ إجمالى عددها أكثر من 1000 غارة جوية.

 

 
لنتذكر هنا عملية إسرائيلية واحدة حملت اسم “الصدمة” أو “ميتسا هِلم” واستهدفت “الصعيد الجواني” حيث كوبري دندرة، وقناطر نجع حمادي، ومحطة محولات نجع حمادي، وهي العملية التي نفذتها قوة إسرائيلية تم إنزالها على الأرض، وتحركت براحتها حتى أنهت مهمتها بتفجير الأماكن الثلاثة ثم عادت أدراجها دون خسائر.

 

 
لم تستطع القوات المصرية تنفيذ عمليات مماثلة في العمق الإسرائيلي باستثناء ميناء “إيلات” الذي هو على الأطراف، وتحكم الطيران الإسرائيلي في الأجواء المصرية، وقد اضطر عبد الناصر في نهاية المطاف إلى قبول مبادرة وزير الخارجية الأمريكي وليام روجرز (7 أغسطس/آب 1970) قبل شهر واحد من وفاته تجنبا للمزيد من الاستنزاف لقواتنا.

 

 
واجب تصحيح التاريخ

 

 
تصحيح التاريخ ليس جريمة، بل هو واجب، ولا يضيرنا اليوم أن نتحدث عن تلك المخازي العسكرية فهي جزء من تاريخنا بحلوه ومرّه، والحديث عنها الآن لن يهز الروح المعنوية للقوات المسلحة، إذ لا يوجد ضابط أو جندي واحد في الجيش المصري الآن ممن شاركوا في تلك المخازي، لكن الأهم أننا أنجزنا في أكتوبر 1973 انتصارا حقيقيا -ولو كان جزئيا- بعد سلسلة الهزائم التي بدأت في 1948 و1956 و1967 وحرب الاستنزاف، ورغم عبور القوات الإسرائيلية غرب القناة إلى مساحات أعمق مما ووصلت إليه قواتنا المصرية شرقها، إلا أن تلك القوات المعادية اضطرت إلى الانسحاب لاحقا حتى لو كان ذلك عبر المفاوضات، فما كان لمفاوضات أن تجبر معتديا إلا لشعوره بضعف موقفه.

 

 
لم تعد الشعوب مجبرة على تصديق رواية واحدة هي رواية السلطة للأحداث، ولم تعد أسيرة منابر السلطة الإعلامية، وهي قادرة على الوصول إلى المعلومات من مصادر مختلفة وغير مكلفة، وهذا ما ينبغي أن يدفع السلطة إلى احترام وعي الشعب، وتقديم المعلومات الحقيقية له، فهو حتما سيصل إليها بطريقته، وفي هذه الحالة لن تجني السلطة سوى المزيد من فقدان المصداقية.

 

 
نقلا عن : الجزيرة مباشر