مع آخر أيام الصيام يودعنا شهر رمضان المبارك، ونحن بتوديعنا للشهر الكريم نودع أيامه ولياليه ولكننا أبدًا لا نودع الأعمال الصالحة التي اعتدنا عليها فيه من صلاة وصيام وقيام وصدقة وذكر ودعاء وبر وإحسان؛ فهذه الأعمال هي التي تجعل هذا الشهر الكريم يتميز على بقية الشعور، بما تحدثه في قلوب المسلمين جميعًا من نقلة شعورية وروحانية وسلوكية، وليس فقط في الامتناع عن الطعام والشراب أو بقية هذه الأمور الظاهرية.

عدنا في رمضان إلى معنى الإنسانية الواحدة المتمثلة في الوحدة الشعورية، والمساواة النفسية، والانصياع لأوامر الله بين كل المسلمين؛ الصغير والكبير، والقوي والضعيف، والغني والفقير، والأمير والمأمور، وأحسسنا معنى الأمة الواحدة كما قال الله تعالى: " إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" (الأنبياء: 92).

رأيتنا في رمضان نهب لصلاة التراويح متسابقين إلى المسجد لنكون في الصفوف الأولى منه، وبعضنا ما كان ليتهيأ إلى المسجد ولا إلى الجماعة إلا قليلاً، بل لعل بعضنا من الذين قال الله فيهم: "وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً" (النساء: 142).

عهدتنا في رمضان نتسابق في قراءة القرآن ونحيي به الليل كله أو بعضه، بعد أن كان الكثيرون منا لا يذكرون الله إلا قليلاً، بل ربما كان بعضنا من الذين شكاهم رسول الله إلى ربه، وقال فيهم: "يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا" (الفرقان: 30).

وإن تعجب في رمضان فمن هذه النفوس التي تمتص الغضب، وتحيل جرعاته إلى بسمات صافية على الوجوه، أو إلى كظم له في نفس تضطرم حتى لتكاد تسمع أزيز مرجلها، ومع ذلك تحكّمنا فيها ووجهناها إلى الخير، وبدلاً من أن نرد الصاع صاعين، والكلمة ثلاثًا وأربع، رأيتنا نقول لمن أغضبنا – كما علمنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) – "اللهم إني صائم".

إن هذه الحركة التغييرية الكبيرة التي أوجدها رمضان في نفوسنا يجب أن تبقى وأن تستمر؛ فالمؤمن الصحيح يعرف أن العمل لا يتوقف إلا بانقطاع الأجل، وإذا ماتَ ابنُ آدم انقطعَ العمل إلا من ثلاث كما قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "من صَدقةٍ جارية، أو عِلمٍ ينتفع به، أوْ ولدٍ صالحٍ يَدْعو له" (رواه مسلمٌ).

وقال الحسنُ البصريُ (رحمه الله): "أيْ قوم، المداومَةَ المداومة، فإنَّ اللهَ لَمْ يجعلْ لعملِ المؤمنِ أَجَلاً دُونَ الموت".

إن بكاءنا على رحيل رمضان حسن وجميل، ولكن ما فائدة البكاء ونحن لم نعزم عزمًا أكيدًا على الاستمرار في حالة اليقظة الروحية والفكرية التي خرجنا بها من هذا الشهر الكريم؟

وَدَاعًـا حَلِيْفَ الدُّعَـا وَالْقُنُوْتِ         وَشَهْرَ الْقِيَـامِ وَنَفْـحِ السَّحَرْ

فَدَمْعِي عَلَى الْخَـدِّ مُسْتَرْسِـلٌ          وَمِنْ أَجْلِ بُعْدِكَ قَلْـبِي انْفَطَرْ

فَهَلْ نَلْتَقِـيْ يَا حَلِيْفَ الصَّلاحِ           وَهَلْ عَـوْدَةٌ أَمْ سَيَأْبَـى الْقَدَرْ؟