قطب العربي:


في العام 1960، وكجزء من الاحتفالات بالذكرى السنوية لحركة 23 يوليو 1952، بدأ بث التلفزيون المصري، الذي كان يسمى التلفزيون العربي تماشيًا مع الحالة القومية العربية التي رفع ضباط يوليو رايتها. 


كان التلفزيون المصري -الذي يطلق عليه شعبيًّا اسم ماسبيرو نظرا لوجوده في المنطقة التي تحمل اسم عالم المصريات الفرنسي جاستون ماسبيرو- هو أحد انجازات دولة يوليو 1952، وإليها انتسب، وعنها عبّر خير تعبير، رافق نجاحاتها وانتصاراتها وانكساراتها، وكان صوتها وناقل رسالتها. 


وحرصت تلك الدولة -التي امتدت حتى ثورة 25 يناير 2011- على تطويره، فأنشأت اتحاد الإذاعة والتلفزيون في 13 أغسطس 1970، وانتقلت به من عالم “الأبيض والأسود” إلى عالم التلفزيون الملون، ومن القناة الواحدة إلى 23 قناة و46 محطة إذاعية، تغطي كل أرجاء مصر، وتصل إلى خارجها، بخلاف الشركات والإدارات الأخرى التابعة له. 


وحين شهدت الدولة المصرية هوجة الخصخصة في عهد مبارك فإنها لم تقترب من ماسبيرو والمؤسسات الصحفية القومية، وتم التعامل معها جميعها مثل الجيش الوطني تمامًا، وظل التلفزيون الرسمي وفيًّا لدولة يوليو حتى لحظة الانقضاض عليها في 25 يناير 2011 إذ كان الصوت المتبقي لها بعد قفز الآخرين من المركب.


إلى واجهة الأحداث


منذ مطلع يناير الحالي عاد ماسبيرو إلى واجهة الأحداث، ليس لسبق صحفي أذاعه، أو خطط تطوير حقيقية، ولكن بسبب مظاهرات عمّته على مدى أيام تطالب بمستحقات مالية تأخر صرفها للعاملين منذ 2014، لقد صبر موظفو ماسبيرو-والذين يتجاوز عددهم 35 ألفًا في الوقت الحالي- على النظام الجديد بعد انقلاب الثالث من يوليو 2013، كانوا يرون أنفسهم جزءًا من هذا النظام الذي عدّوه استمرارًا لدولة يوليو التي أنشئ مبناهم في عهدها، ولذا احتملوا تلك الاقتطاعات والتأخيرات دعمًا مؤقتًا منهم للنظام الجديد حتى يتماسك، ويستطيع صرف مستحقاتهم، لكنهم فوجئوا بأن الأمر لم يعد يقتصر على تلك الاستقطاعات المالية ولكن تجاوزه إلى الحديث عن التخلص من ماسبيرو نفسه تحت لافتة إعادة الهيكلة التي بدأت في 2018، وتتضمن تقليص عدد القنوات من 23 إلى 10 فقط، وخفض العمالة من 35 ألفًا إلى 20 ألفًا كمرحلة أولى، على أن تشهد المراحل التالية -غير المعلنة حتى الآن- المزيد من التخفيضات وصولًا إلى التصفية الكاملة لهذا المبنى بقنواته وموظفيه باعتباره ينتمي إلى جمهورية يوليو القديمة، ولم يعد مناسبًا لجمهورية يوليو الجديدة التي أعلن عنها عبد الفتاح السيسي، ويريد أن يكون لها إعلامها الخاص الذي تجسد بالفعل في ما يمكن وصفه بـ”ماسبيرو الجديد”، وأقصد به مجموعة القنوات التي تم تأسيسها أو شراؤها من رجال أعمال آخرين، وضمّها تحت مظلة الشركة المتحدة التابعة للمخابرات المصرية، التي تشرف حاليًّا على عملية إعادة الهيكلة لماسبيرو.


ارحل


مظاهرات موظفي ماسبيرو -التي انطلقت مطلع يناير متزامنة مع الذكرى السنوية الحادية عشر للثورة، ومجددة لشعاراتها “ارحل” “هو يمشي” وإن كانت تقصد بها حسين زين رئيس الهيئة الوطنية للإعلام التي حلت محل اتحاد الإذاعة والتلفزيون- ليست كغيرها من المظاهرات الفئوية، ذلك أنها تعبّر عن قطاع هو التجسيد الأدق لما يسمى حزب الكنبة، البعيد تمامًا عن السياسة، والمرتمي في حضن السلطة دومًا، ولكن صبره على حقوقه بلغ مداه، وأصبح مهددًا بالإعدام المعنوي، أي الاستغناء عن خدماتهم، وعن قنواتهم، فهب مدافعًا عن حقه في الحياة “ويا روحي ما بعدك روح”. 


ومن الواضح أن عدوى مظاهرات ماسبيرو  انتقلت إلى أماكن أخرى، مثل تلفزيون الإسكندرية وبعض المؤسسات الصحفية، لكن الخوف هو انتقالها بشكل كثيف إلى مؤسسات كبرى رغم وجود ترسانة قوانين تمنع التظاهر، وهي القوانين التي تغلّب عليها موظفو ماسبيرو بالتظاهر داخل مقر عملهم ولم يكونوا بحاجة إلى رخصة تظاهر، وهو ما يسهل تكراره في أماكن العمل الأخرى.


يئن ماسبيرو -مثل المؤسسات الصحفية القومية- من ديون متراكمة (بلغت 42 مليار جنيه للتلفزيون و20 مليار جنيه للمؤسسات الصحفية)، وليس هناك إمكانية لدى المؤسسات الإعلامية لسداد تلك الديون ومعظمها لبنك الاستثمار والبنوك العامة والضرائب والتأمينات، فهي تحقق خسائر مستمرة، ولا يُتوقع لها أن تحقق أرباحًا تغطي بها خسائرها وديونها، حيث انصرف عنها المشاهدون والقراء والمعلنون، بعد أن تحولت إلى مجرد نشرات إعلانية، تردد كالببغاء ما يرد إليها من بيانات رسمية، وهي السياسة التي فرضها عليها وعلى غيرها النظام الحاكم الذي أحكم قبضته بشكل شبه كامل على كل القنوات والصحف والمواقع، وحوّلها جميعًا إلى إعلام الصوت الواحد، وهو ما تسبب في انصراف الناس عنها إلى غيرها من القنوات المصرية التي تبث من الخارج أو القنوات والمواقع الدولية التي لا تخضع لقيود النظام.


فقدان المصداقية


لم يعد للإعلام المصري الذي يبث من داخل البلاد -مع استثناءات قليلة جدًّا- أي مصداقية، ومهما سعى النظام لتطويره شكليًّا بإنفاق ملايين أو حتى مليارات الجنيهات فإن ذلك لن يجد نفعًا، لأن الإعلام لا يقوم فقط على الشكل والبهرجة بل الأهم هو المضمون، وهذا المضمون لن يكون مقبولًا وجذابًا إلا في وجود حرية حقيقية تسمح بالرأي والرأي الآخر في المنبر الواحد، وتسمح بتعدد وتنوع القنوات والمحطات والمواقع والتنافس الحر الشريف بينها، كما يحدث في الدول الديمقراطية. 


ولأننا أمام نظام كاره للحريات وعلى رأسها حرية الإعلام فلنا أن نتوقع المزيد من التراجع والانهيار للإعلام المصري، وأن نتوقع أن كل ما يُنفق عليه سيذهب هدرًا، فكما يقولون “إيش يعمل الكحل في العمشة”!


نقلا عن/ الجزيرة مباشر