عزام التميمي

كما هو معروف للجميع، هذه ليست الحرب الأولى بين قطاع غزة والكيان الصهيوني الذي يحتل فلسطين، بل هي المواجهة الكبيرة الرابعة خلال أقل من ثلاثة عشر عاماً. إلا أن هذه المواجهة تختلف عن كل سابقاتها.


فأولاً، كانت غزة هي التي بدأت الحرب انتقاماً للمسجد الأقصى الذي ظل جنود ومستوطنو الكيان الصهيوني يؤذون المصلين والمعتكفين فيه طوال العشر الأواخر من شهر رمضان، وعمدوا في نفس الوقت إلى إغلاق كافة سبل الوصول إليه في وجه أهالي الضفة الغربية، وانتصاراً كذلك لأهالي حي الشيخ جراح في القدس، الذين لم تتوقف تهديدات الصهاينة لهم بالإخلاء والتهجير، تارة بالإيذاء والإرهاب وتارة بأحكام قضائية صهيونية من محاكم تأتمر بتوجيهات السياسيين ولا يمت نظرها في القضايا المتعلقة بالفلسطينيين إلى العدالة بصلة.

ثانياً، شهد الرأي العام الفلسطيني، في كل الساحات بلا استثناء، إجماعاً، ووحدة وتضامناً إزاء هذه المواجهة لم يسبق أن رأيناه في أي من سابقاتها، فهب الفلسطينيون مع غزة هبة رجل واحد في الضفة الغربية وفي فلسطين 1948 وفي الشتات، وحد شملهم ولم شعثهم الاستفزاز الصهيوني السافر في مسألة لا تخصهم وحدهم بل تهم كل المسلمين في العالم، فالأقصى قبلتهم الأولى، ومسرى نبيهم صلى الله عليه وسلم، ومنطلق معراجه إلى السماء، وثالث المساجد التي لا تشد الرحال إلا إليها.

وثالثاً، يتشكل الجمهور الأعم من الفلسطينيين هذه المرة من جيل جديد من الفتيان والفتيات، الذين وجدوا أنفسهم، ربما كثير منهم من حيث لم يحتسبوا، في الخط الأمامي من جبهة المواجهة مع مجتمع صهيوني يزداد تعصباً وإغراقاً في الأساطير التوراتية ويزداد كرهاً للفلسطينيين ورفضاً للتعايش معهم وائتلاف حكومي إسرائيلي يزداد تطرفاً وانزلاقاً نحو ما يوصف عادة باليمين في عرف السياسة الغربية، قرر لأسباب سياسية محضة تبني مواقف ومقولات التيار القومي الديني في المجتمع الصهيوني.

لا تلتبس على أبناء هذا الجيل الجديد لا طبيعة الاحتلال ولا أهدافه. فهم لم يشهدوا إبرام اتفاقيات أوسلو في عام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني، بل ولدوا بعد انكشاف عورتها وافتضاح أمرها بأعوام طويلة. كان من المفروض أن تفضي هذه الاتفاقيات إلى أن نوال الفلسطينيين استقلالهم وإقامة دولتهم في تلك المناطق من فلسطين التي احتلها الصهاينة في عام 1967، أي الضفة الغربية وقطاع غزة. ولكن، وبدلاً من ذلك، نشأ الجيل الجديد ليس في دولة فلسطينية مستقلة، ولا في أجواء من الحرية والكرامة، وإنما في واقع مختلف تماماً تزداد مرارة العيش فيه يوماً بعد يوم. فلم يبق الصهاينة من الأرض لهم ما يكفي لإقامة كيان فلسطيني ذي معنى، إذ أنهم – ومنذ عام 1967 ولكن بشكل أبشع منذ عام 1993 – لم يتوقفوا عن مصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينية لإقامة مستوطنات يهودية جديدة، وتعبيد الطرق الالتفافية التي تكرس لخدمة اليهود دون غيرهم، وتوسيع المستوطنات القائمة، ورافق ذلك هدم بيوت كثير من الفلسطينيين بحجة عدم الترخيص من السلطات المختصة. لم يجد أبناء هذا الجيل دولة محترمة تنتظرهم، وإنما وجدوا الاحتلال البغيض، ووجدوا معه سلطة فلسطينية أفرزتها اتفاقيات أوسلو، مهمتها الأساسية ضبط الفلسطينيين الذين أوكلت إليها مهمة إدارة شؤونهم اليومية، بحيث تكون بمثابة الذراع الأمني للاحتلال، تضطهد الفلسطينيين وتقمعهم، وتقيد حرياتهم، وتحول بينهم وبين الوصول إلى أي من جنود الاحتلال ومستوطنيه الذين يعيثون في الأرض فساداً ويحيلون حياة الفلسطينيين جحيما، وتنسق أولاً بأول مع سلطات الاحتلال لملاحقة كل من يشتبه بمعارضته للاحتلال أو التخطيط لمقاومته.


عمق من الشعور بالخيبة والمرارة والإحباط والغضب لدى أبناء هذا الجيل الجديد ما رأوه خلال العقد الأخير من تهافت في المواقف العربية وتراجع فلسطين في سلم أولوياتها، بل والأسوأ من ذلك تدافع بعض الحكومات نحو الاعتراف بالكيان الصهيوني وتطبيع العلاقات معه في العام الأخير من إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وذلك على الرغم من توغل الصهاينة في ضم مزيد من الأراضي، وخاصة في القدس وما حولها، وتوجه الإدارة الصهيونية نحو تقنين "يهودية الدولة" بما يعنيه ذلك من تداعيات على أهل البلاد الأصليين من الفلسطينيين الذين يشكلون خمس تعداد سكان مواطني الدولة الصهيونية.

القشة الأخيرة

لم تكن المواجهة في ساحات المسجد الأقصى وما حوله، وكذلك في حي الشيخ جراح، سوى القشة التي قصمت ظهر البعير. فعلى مدى العقد الماضي، أو يزيد قليلاً، ما فتئت الحكومة الإسرائيلية بزعامة بنيامين نتنياهو تتجه بشكل متسارع نحو اليمين المتطرف حتى دخلت في تحالف وثيق مع ما يسمى بالمعسكر الصهيوني الديني، الذي يؤمن المنتسبون إليه بأن فلسطين أرض موعودة لهم من ربهم، وبما أنها موعودة فإنه من حقهم أن يجردوا الفلسطينيين من ممتلكاتهم ويخرجوهم من ديارهم. يعتقد هؤلاء بأن الرب منحهم رخصة لارتكاب جرائم ضد الفلسطينيين تعتبر في عرف القانون الدولي جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية.

كما يعتقدون بأنه من أجل أن يتسنى لهم إقامة هيكلهم المزعوم، فلابد أولاً من هدم المسجد الأقصى، الذي يشترطون زواله تماماً من الوجود. وتمهيداً لهذا المآل، ومن باب الإعداد له، فإنهم يزعمون ملكية بيوت الفلسطينيين في الأحياء المجاورة للمسجد الأقصى والمحيطة به، بما في ذلك حي الشيخ جراح، ويستخدمون من أجل الاستيلاء على تلك البيوت النظام القضائي الصهيوني حتى يضفي مشروعية قانونية على عمليات النهب والسلب التي يقومون بها. بالإضافة إلى ذلك، يقوم المستوطنون اليهود من حين لآخر، وفي حماية من جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية، بتنظيم مسيرات مستفزة داخل القدس، يقتحم بعضها حرم المسجد الأقصى وقبة الصخرة في تحد لسكان المدنية وللمسلمين قاطبة.

صراع ديني؟

كانت الشرارة التي اندلع بسببها التوتر الأخير هي قرار أولئك المستوطنين تنظيم مسيرة كبيرة للاحتفال بالذكرى السنوية لضم القدس الشرقية من قبل إسرائيل، أو ما يسمونه "توحيد المدينة"، مباشرة بعد احتلال ما كان منها تحت الحكم الأردني الهاشمي قبل نشوب حرب الأيام الستة في عام 1967. تصادفت تلك الذكرى مع اليوم الثامن والعشرين من شهر رمضان المبارك، أي في الأيام الأواخر من شهر الصيام التي يتحرى فيها المسلمون ليلة القدر، والتي هي بنص القرآن "خير من ألف شهر."

وكانت الشرطة الإسرائيلية وقطعان المستوطنين قد بدأوا بمضايقة وإرهاب المصلين المسلمين منذ بداية العشر الأواخر من شهر الصيام، والتي يتوافد خلالها الناس بأعداد غفيرة على المسجد للصلاة والقيام والاعتكاف فيه، فصلاة فيه كما ورد في الحديث الصحيح بخمسمائة صلاة فيما سواه، ما عدا المسجد الحرام في مكة ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة. ورغم أن السلطات الإسرائيلية اتخذت هذا العام إجراءات تحول دون وصول الفلسطينيين من مدن وقرى الضفة الغربية، إلا أن بعضهم تمكن من تخطي الصعاب، وسار على قدميه مسافات طويلة عبر الجبال والوديان، حتى يتمكن من حيازة شرف الانضمام إلى الجماهير التي أتت من مدن وقرى فلسطين 1948 ومن داخل مدينة القدس، وظلت أعدادها تتزايد مع اقتراب موعد المسيرة المشؤومة للمستوطنين اليهود، حماية للمسجد الأقصى ودفاعاً عن حق المسلمين فيه.


ومع تصاعد التوتر وزيادة وتيرة الاستفزازات الصهيونية، تحفز المصلون، وأغلبيتهم من الجيل الجديد من الشباب الذي وفد من مختلف أرجاء فلسطين، للتصدي لقوات الأمن الصهيونية وإفشال مخطط المستوطنين في انتهاك حرمة مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم. وأفشل هؤلاء الفتية ببسالتهم واستعدادهم للتضحية خطة قوات الأمن الإسرائيلي لإغلاق الساحة المطلة على بوابة دمشق، أو باب العمود، حيث يتجمع الشباب عادة بعد انقضاء الصلاة، لقناعتهم بأنه لم ترك الأمر للصهاينة وأغلقوا تلك الساحة لمضوا فيما بعد ذلك إلى مزيد من الإجراءات التي تقيد حركة المصلين، وتمكن للمستوطنين.

ثم لما بلغ التوتر مداه، حذرت حركة حماس الكيان الصهيوني من عواقب التمادي في مضايقة المصلين ومهاجمتهم ومن الاستمرار في محاولات اقتحام المسجد الأقصى، إلا أن إسرائيل سخرت من هذا التهديد ولم تعره أدنى اهتمام، فما كان من كتائب القسام، الجناح العسكري للحركة، إلا أن أصدر إنذاراً نهائياً للصهاينة بأنهم إذا لم ينتهوا بحلول الساعة السادسة من مساء الاثنين العاشر من مايو / أيار ويلجموا مستوطنيهم ويسحبوا قواتهم الأمنية فإن المقاومة في غزة ستهب لنصرة القدس والأقصى.

عند كتابة هذه السطور كانت رحى الحرب التي بدأت بمجرد انتهاء ذلك الإنذار ما تزال تدور، وأعداد الإصابات بين المدنيين من أهل غزة في تزايد مستمر، والدمار الذي تلحقه إسرائيل ببنية القطاع الفوقية والتحتية تتسع رقعته ساعة بعد ساعة. ما من شك في أن الإسرائيليين يستهدفون عمداً المنازل، ويدمرونها على رؤوس ساكنيها بهدف زيادة معاناة الناس عساهم ينقلبوا ضد المقاومة. إلا أن شيئاً من ذلك لم يحصل رغم شدة الألم وفظاعة النكبة. بل على العكس من ذلك، لم تزد اعتداءات الصهاينة، فيما نسمع ونرى، أهل غزة إلا صلابة وثباتاً والتفافاً حول المقاومة، بينما تنتشر بين الصهاينة في تجمعاتهم من وسط فلسطين إلى جنوبها حالة من الذعر والرعب والقنوط، وقد شلت الحياة لديهم بمختلف جوانبها وتعطلت عجلاتها، إذ لم يعد أي منها في منأى عن صواريخ المقاومة المنطلقة من غزة تجاهها.

كما في الحروب السابقة (2009، 2012، 2014)، تسعى الأطراف الإقليمية والدولية للتوسط من أجل إبرام اتفاق وقف لإطلاق النار بين الجانبين، إلا أن ما يعقد الأمور بالنسبة لإسرائيل هذه المرة، وأكثر من أي من المواجهات السابقة بين غزة والكيان الصهيوني، هو أن المواجهة الحالية شهدت بالتوازي اندلاع احتجاجات عارمة في كل أنحاء فلسطين، وخاصة في مدن وبلدات فلسطين 1948 حيث يعيش الفلسطينيون، والذين من المفروض أنهم مواطنون إسرائيليون، حياة من القهر والظلم و يعانون من عنصرية صهيونية تكاد تكون نسخة طبق الأصل عن عنصرية نظام الأبارتيد (الفصل العنصري) الذي كان قائماً في جنوب أفريقيا حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي، والذي كان يبرر قهر البيض من ذوي الأصول الأوروبية للسود من سكان البلاد الأصليين بمزاعم دينية شبيهة جداً بمزاعم الصهاينة بأن لليهود حقاً إلهياً في احتلال فلسطين وقهر أهلها.

ليست هذه هي المرة الأولى التي ينتفض فيها أولئك المستضعفون من أهل فلسطين 1948، ولكنها بلا ريب من أكثر انتفاضاتهم زعزعة للكيان الصهيوني حتى الآن، ومن أبلغها في كشف زيف الادعاء بأن حالة من الوئام والتعايش قد ترسخت داخل ما يعرف بالمدن المختلطة مثل اللد ويافا وحيفا وتل أبيب، بين اليهود والعرب.

لقد عملت النخبة السياسية الحاكمة في إسرائيل، من خلال تحالفها مع المعسكر الصهيوني الديني الذي يعتقد أتباعه بأن فلسطين أرض وعدها الرب لهم وخصهم بها دون غيرهم، على تحويل ما كان يعتبر صراعاً سياسياً بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلى صراع ديني عقائدي وجودي. وهل يملك أهل فلسطين في هذه الحالة إلا أن يردوا عليهم قائلين: "إذا كنتم تريدونها حرباً دينية، فلتكن إذن."

لقد أعمى الكبر الصهاينة، وبلغ بهم الأمر أن يظنوا أن بإمكانهم الانتصار في حرب دينية يشنونها على الإسلام. إنها حرب سيجدون أنفسهم فيها، عاجلاً أم آجلاً، في مواجهة ما يزيد عن 1.6 مليار مسلم ينتشرون في أرجاء المعمورة، ناهيك عن الملايين من أحرار الدنيا الذين سئموا هذا الصلف والإجرام الصهيوني الذين يرتكب تارة باسم المظلومية التاريخية وتارة باسم الوعد الإلهي، وتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.