المصدر : إخوان ويكي
مقدمة
أصدرت هيئة الأمم المتحدة قرارا ظالما في (15 من المحرم 1367هـ 29 من نوفمبر 1947م) بتقسيم فلسطين، وإنشاء دولتين؛ إحداهما للعرب، والأخرى لليهود، وكان لهذا القرار أثر خطير في مصر؛ فاجتاح الناس شعور بالسخط والغضب والثورة، وكانت وما زالت القضية الفلسطينية تحظى باهتمام المصريين، وتحتل مكانة كبيرة في قلوبهم، لم تزحزحها رغبتهم العارمة في التحرر من أسر الاحتلال البريطاني، وكان موقف مصر من القضية واضحا تماما؛ فقد أعلن "عبد الرزاق السنهوري" ممثل المملكة المصرية في مؤتمر فلسطين الذي عُقد في لندن سنة (1366هـ1946م) رفض مصر القاطع لأي شكل من أشكال التقسيم أو إقامة دولة يهودية في هذا الجزء من العالم العربي، وأنمصر لن تقف مكتوفة الأيدي حتى يصبح الخطر اليهودي حقيقة واقعية.
وما كاد يُذاع نبأ التقسيم حتى عمَّت المظاهرات في مصر، وتداعت القوى الوطنية الإسلامية إلى الاجتماع والاتفاق على العمل، وشُكِّلت الهيئة العليا لإنقاذ فلسطين، وقامت بتنظيم حملات للتبرع والدعوة إلى إنشاء كتائب الجهاد، وكان"أحمد عبد العزيز" واحدًا من أبرز القادة الذين استجابوا لداعي الجهاد قبل أن تتحرك الحكومات وتبعث بجيوشها إلىفلسطين.
المولد والنشأة
في مدينة "الخرطوم" وُلد "أحمد عبد العزيز" في (18 من جمادى الآخرة 1325هـ 29 من يوليو 1907م) حيث كان يعمل أبوه ضابطا بالجيش المصري فيالسودان، ولا يُعرف كثير عن حياته الأولى، لكنه نشأ في بيت يمتلئ بالوطنية، ويعتز بالكرامة؛ فقد كان أبوه ضابطا وطنيا أبيَّ النفس، وقف مع الشعب في أثناء ثورة1919، ودفع جنوده إلى المشاركة في المظاهرات التي كانت تموج بها شوارع القاهرة، وسمح لهم بالخروج من ثكناتهم العسكرية إلى ميدان "عباس" ليحرسوا مواكب الحرية وحشود الاستقلال. وكان هذا الموقف الكريم سببا في غضب الإنجليز عليه، وفُصل من الجيش، وفي مثل هذا الجو الكريم والحياة الأبية نشأ "أحمد عبد العزيز" محبا لوطنه، مغرما بحياة الجندية؛ فاتجه بعد تخرجه في المدرسة الثانوية إلى الكلية الحربية تلبية لنداء نفسه، وتخرج فيها سنة (1347هـ 1928م)، ثم الْتحق بسلاح الفرسان، وكان بطلا في أعمال الفروسية ومن أبطالها المعروفين في مصر، ثم قام بتدريس التاريخ الحربي في الكلية الحربية.
وعُرف "أحمد عبد العزيز" بين زملائه وتلاميذه بالإيمان العميق، والأخلاق الكريمة، والوطنية الصادقة، وحب الجهاد، والشغف بالقراءة والبحث، وزادته الفروسية نبل الفرسان وترفعهم عن الصغائر والتطلع إلى معالي الأمور.
التضحية بوظيفته العسكرية بعد قرار التقسيم وانتهاء الانتداب البريطاني
في (5 من رجب 1367هـ 14 من مايو 1948م) تمكنت العصابات اليهودية في فلسطين من تسليح أنفسها وشنّ هجمات على الفلسطينيين العزل المجردين من السلاح، وارتكبت مذابح عديدة ضدهم، وهو ما أثار غضب العرب والمسلمين، وأشعل جذوة الإيمان في النفوس؛ فتداعوا إلى الجهاد وحمل السلاح دفاعا عن إخوانهم، ونصرة لدينهم وبدأت بعض الأحزاب والجماعات تنظيم عملية التطوع وإقامة المعسكرات للتدريب على السلاح.
كان أحمد عبد العزيز واحدا ممن حملوا الدعوة إلى الجهاد وتنظيم الأفراد المتطوعين، وقام هو بالتدريب والإعداد، وبدلا من أن يلقى دعما رسميا من الدولة فوجئ بمن يخيره بين ترك وظيفته في الجيش -وكان برتبة مقدم- أو ترك عمله التطوعي والبقاء في الجيش قائلا له: "إذا أردت الجهاد فلتحل إلى الاستيداع"، فأجابه دون تردد: "ورتبتي أتنازل عنها إذا تطلب الأمر، ما دام في ذلك مصلحة البلاد".
قيادة كتائب المجاهدين
بدأ "أحمد عبد العزيز" العمل على الفور، واستقبل المتطوعين في معسكر "الهايكستب"، وتولى تدريبهم وإعدادهم، واعتمد في تسليحهم على ما أمدّته به قيادة الجيش من مدافع خفيفة وأسلحة وبقدر من الذخائر بعد أن ألح في الطلب، واتخذ كل وسيلة لإقناع المسؤولين بأهمية تزويد المتطوعين بالسلاح، كما اعتمد على ما جمعه من المتطوعين من الأسلحة التي خلَّفتها الحرب العالمية الثانية؛ فأصلح ما يُمكن إصلاحه منها.
وبعد أن اطمأنَّ على عملية التدريب تجهز للرحيل إلى فلسطين، وشاركت قوات "جماعة الإخوان المسلمين" التي كان الشيخ الشهيد "محمد فرغلي" موجهها الديني. الطريق إلى فلسطين وعلى أبواب فلسطين وقبل أن تبدأ عمليات الجهاد أخذ "أحمد عبد العزيز" ينظم جنوده، ويرتب لهم أعمالهم، ويراجع معهم الخطط والمهام، ثم بدأ في تهيئتهم وإعدادهم نفسيا وبثِّ الثقة والإيمان في نفوسهم.
وكتب لهم بيانا جاء فيه:
- "أيها المتطوعون، إن حربا هذه أهدافها لهي الحرب المقدسة، وهي الجهاد الصحيح الذي يفتح أمامنا الجنة، ويضع على هاماتنا أكاليل المجد والشرف؛ فلنقاتل العدو بعزيمة المجاهدين، ولنخشَ غضب الله وحكم التاريخ إذا نحن قصرنا في أمانة هذا الجهاد العظيم".
وحاول القائد أن يدخل جنوده فلسطين، فرأى الطريق العام لدخولها مُقفلا؛ إذ كانت تسيطر عليه القوات الإنجليزية، فلم يُوهِنْ ذلك من عزيمته، وسلك طريقا آخر صعبا ووعرا مكَّنه من الوصول إلى مدينة "خان يونس" إحدى مدن قطاع غزة، وهناك وجد مستعمرة لليهود حصينة منيعة، اتُّخذت مركزا للعدوان على الفلسطينيين، ففاجأهم بهجوم خاطف زلزل قلوب اليهود، وألقى الفزع والهلع في نفوسهم، فخرجوا فارين يطلبون النجاة بعد أن ظنوا أن حصونهم مانعتهم من الخطر والتهديد.
طريق النصر
كانت البداية موفقة زادت المجاهدين ثقة وإيمانا، وتطلعوا إلى عمليات جديدة وضربات موجعة، فتوجهوا إلى مدينة "دير البلح"، وكان لها أهمية خاصة؛ حيث تتحكم في طرق الاتصال بين "غزة" و"خان يونس"، فرسم "أحمد عبد العزيز" خطة للهجوم عليها، فحاصرها حصارا شديدا، وبعث اليهود إليها بمصفحات لإنقاذها وفك حصارها، فلما ترامت هذه الأخبار إلى "أحمد عبد العزيز" استعد لتلك المصفحات وفاجأها بمجموعة فدائية كمنت لها في الطريق، ورمَتْها بقذائف متتابعة نجحت في القضاء عليها، وفي الوقت نفسه كانت القوات الأخرى للفدائيين تضرب مستعمرات اليهود بكل ضراوة وبسالة حتى تمكنوا من دخول المدينة، وتطهيرها من العصابات اليهودية.
ولما بدأت قوات الجيش المصري الرسمية تتقدم إلى فلسطين عرضت على "أحمد عبد العزيز" العمل تحت قيادتها، فتردد في قبول العرض، واحتج بأنه يعمل مع جماعات المتطوعين الذين لا يلتزمون بالأوضاع العسكرية التي يلتزم بها الجيش النظامي، ثم قَبِلَ في آخر الأمر أن يتولى مهمة الدفاع عن منطقة "بئر السبع" ولا يتجاوزها شمالا؛ وبذلك يتولى عبء حماية ميمنة الجيش المصري والدفاع عن مدخل فلسطين الشرقي.
المتمركز في بئر السبع ولما وصل "أحمد عبد العزيز" إلى "بئر السبع" اتخذها مقرا له، وبدأ في توزيع قواته على المنطقة المحيطة بها، فاحتلت "العوجة"و"العسلوج"، ثم اتجه على رأس قوة من قواته مُدعما بمتطوعي "جماعة الإخوان المسلمين" إلى "بيت لحم" للدفاع عنها وعن مدينة الخليل أمام هجمات العصابات اليهودية التي اتخذت من مستعمرة "رامات راحيل" مركزا للهجوم، وكانت تقع على ربوة عالية تمكن المدافعين عنها من مراقبة تحركات القوات العربية الموجودة في "بيت لحم"، وكان الجيش الأردني مسؤولا عن الدفاع عنها. ولتأمين مدينة "بيت لحم" كان ينبغي اقتحام هذه المستعمرة، وتكررت محاولات "أحمد عبد العزيز" للاستيلاء عليها حتى كلَّل الله عمله بالنجاح بعد هجوم كثيف وتضحيات كبيرة، فوقعت في قبضته في (17 من رجب 1367هـ 26 من مايو 1948م).
قبول الهدنة
وفي الوقت الذي كان فيه المجاهدون يوجهون ضربات موجعة لليهود ومستعمراتهم قبِلَت الحكومات العربية التي تشارك بجيوشها في فلسطين قرار الهدنة، ووقف إطلاق النار لمدة أربعة أسابيع تبدأ من (13 شعبان 1367هـ 11 من يونيو 1948م)، وجاء قبول الهدنة ليزيد القضية الفلسطينية تعقيدا؛ حيث مكَّنت الهدنة اليهودمن جلب الأسلحة الثقيلة وإدخال سلاح الطيران، واحتلال قرى ومدن جديدة، على حين كانت القوات العربية ينقصها العتاد والسلاح والقيادة الصالحة، وتفتقد الحزم والانضباط.
وكان يمكن للدول العربية -لو أرادت- أن تمدّ المجاهدين في فلسطين بالعتاد والسلاح والمال والمتطوعين قبل انتهاء الانتداب البريطاني، وكان هذا يكفي لأن يحول دون تمكين اليهود من وضع أيديهم على البلاد؛ فإن المجاهدين هناك قاوموا الانتداب البريطاني واليهود معا سنين عديدة من قبل، ولو أنهم لقوا العون من الدول العربية دون إعلانها الحرب لكان هذا كافيا لمنع اليهود من إنشاء دولتهم. استغل "أحمد عبد العزيز" فترة الهدنة في جمع قواته وحشدها في "بيت لحم"، وتحصين المدينة وإقامة خط دفاعي حولها.
استشهاد البطل
وبعد انتهاء الهدنة الأولى عادت الاشتباكات مرة أخرى، ونشط الفدائيون والمتطوعون وكتائب الجيش لضرب اليهود ضربات قاصمة، ولم يستمر ذلك طويلا؛ فقد أُعيدت الهدنة مرة أخرى في (1 من رمضان 1367هـ 8 من يوليو 1948م)، وعلى الرغم من ذلك فإن اليهود لم يلتزموا بقرار الهدنة؛ فكانوا يخرقونها بعمليات عسكرية ما دامت في صالحهم.
وفي (16 من شوال 1367هـ 22 من أغسطس 1948م) دُعي "أحمد عبد العزيز" لحضور اجتماع في "دار القنصلية البريطانية" بالقدس لبحث خرق اليهودللهدنة، وحاول اليهود معه أن يتنازل لهم عن بعض المواقع التي في قبضة الفدائيين، لكنه رفض، وأصر على الاحتفاظ بها.
وفي مساء اليوم نفسه اتجه إلى "غزة" حيث مقر قيادة الجيش المصري؛ لينقل إلى قادته ما دار في الاجتماع؛ فكانت منطقة "عراق المنشية" مستهدفة من اليهوديستغلون ظلام الليل للهجوم عليها، فكانت ترابط بها كتيبة عسكرية لديها أوامر بضرب كل عربة تمر في ظلام الليل؛ فلما اقتربت سيارة "أحمد عبد العزيز" من تلك المنطقة ظنها أحد الحراس من سيارات العدو، فأطلق عليها الرصاص، فأصابت إحداها "أحمد عبد العزيز" فاستُشهد في الحال، واستقبل الناس خبر استشهاده بكل أسى وحزن وخسرت ميادين الجهاد في فلسطين قائدًا عظيما ومجاهدا مؤمنا.