إن من أعظم حقوق الخليفة على رعيته بعد مبايعتهم له طاعتهم إياه، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يبايع رعيته على السمع والطاعة فيما استطاعوا[1].
وقد بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرعيته أن من بايع أميره فقد بايعه، ولا يلزم من البيعة لقاء الخليفة بشخصه، قال عمر رضي الله عنه لبشر بن قحيف: "إذا بايعت أميري فقد بايعتني".
السمع والطاعة للخليفة
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحذر رعيته من شق عصا الطاعة على الخليفة، ويأمرهم بلزوم طاعته وإن كان عبداً حبشياً، ولا شك أن تلك الطاعة مقيدة بما ليس فيه معصية لله ورسوله صلى الله عليه وسلم فإذا أمر بالمعصية فلا سمع ولا طاعة كما قال صلى الله عليه وسلم: "على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصيته، فإذا أمر بمعصيته فلا سمع ولا طاعة".
قال عمر رضي الله عنه لسويد بن غفلة رحمه الله: "يا أبا أمية، إني لا أدري لعلي لا ألقاك بعد عامي هذا، فإن أُمِّر عليك عبد حبشي مجدع فاسمع له وأطع، وإن ضربك فاصبر، وإن حرمك فاصبر".
وروي أن عمرو بن عطية رحمه الله قال: أتيت عمر وأنا غلام، فبايعته على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم هي لنا وهي علينا، فضحك وبايعني [2].
وقد بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن صلاح الوالي أو الحاكم وامتثاله أوامر الله عز وجل سبب في صلاح رعيته وامتثالهم طاعة الله عز وجل ومن ثم طاعته والانقياد له. قال عمر رضي الله عنه: "إن الناس لم يزالوا بخير ما استقامت لهم أئمتهم وهداتهم"[3].
النصيحة للخليفة من رعيته
ومن حقوق الخليفة على رعيته التي نبه عليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه النصيحة له من رعيته، قال رجل لعمر رضي الله عنه: لا أخاف في الله لومة لائم خير لي، أم أقبل على نفسي؟، فقال عمر: "أما من ولي من أمر المسلمين شيئاً فلا يخاف في الله لومة لائم، ومن كان خلواً، فليقبل على نفسه، ولينصح لولي أمره" [4].
وقد رويت عن عمر رضي الله عنه آثار تدل مجتمعة على حبه رضي الله عنه نصيحة رعيته له وحثه لهم على ذلك.
روي أن رجلاً وعظ عمر رضي الله عنه فقال: إنك وليت أمر هذه الأمة، فاتق الله فيما وليت من أمر هذه الأمة في رعيتك، وفي نفسك خاصة، فإنك محاسب ومسؤول عما استرعيت، وإنما أنت أمين، وعليك أن تؤدي ما عليك من الأمانة فتعطى أجرك على قدر عملك، فقال عمر: "ما صدقني رجل منذ استخلفت غيرك" [5].
وروي أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه دخل على عمر رضي الله عنه وهو قاعد على جذع في داره، وهو يحدث نفسه فدنا منه فقال: ما الذي أهمك يا أمير المؤمنين؟
فقال: هكذا بيده، وأشار بها، قال حذيفة: قلت: الذي يهمك، والله لو رأينا منك أمراً ننكره قومناك، قال عمر: آلله الذي لا إله إلا هو لو رأيتم أمراً تنكرونه لقومتوه؟ فقلت: آلله الذي لا إله إلا هو لو رأينا منك أمراً ننكره لقومناك.
قال: ففرح بذلك فرحاً شديداً، وقال: "الحمد لله الذي جعل فيكم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من الذي إذا رأى مني أمراً ينكره قومن"ي.
وروي أن عمر رضي الله عنه قال: أيها الرعية، إن لنا عليكم حقاً النصيحة بالغيب، والمعاونة على الخير.
وروي أن عمر رضي الله عنه رد على أبي بن كعب قراءة آية، فقال أبي رضي الله عنه: لقد سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت يلهيك الصفق بالأسواق بالبقيع، فقال عمر: صدقت، إنما أردت أن أجربكم هل فيكم من يقول الحق، فلا خير في أمير لا يقال عنده الحق ولا يقوله [6].
وروي أن عمر رضي الله عنه خرج من المسجد ومعه الجارود العبدي رضي الله عنه (صحابي جليل، استشهد سنة 21هـ)، فإذا امرأة برزة على ظهر الطريق، فسلم عليها، فردت عليه السلام، فقالت: "هيها يا عمر عهدتك وأنت تسمى عميراً تصارع الصبيان في سوق عكاظ، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف الموت خشي الفوت".
فبكى عمر رضي الله عنه، فقال الجارود: هيه فقد اجترأت على أمير المؤمنين وأبكيته، فقال عمر رضي الله عنه: "أ ما تعرف هذه؟ هذه خولة بنت حكيم امرأة عبادة بن الصامت التي سمع الله عز وجل قولها من فوق سمواته، فعمر أحرى أن يسمع لها" [7].
وروي أن عمر رضي الله عنه قال: "أحب الناس إلي من رفع إلي عيوبي". وروي أن أبا عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل كتبا إلى عمر رضي الله عنه يعظانه: سلام عليك أما بعد، فإنا عهدناك وأمر نفسك لك مهم، وأصبحت قد وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها، يجلس بين يديك الشريف والوضيع، والعدو والصديق، ولكل حصته من العدل، فانظر كيف أنت عند ذلك يا عمر، فإنا نحذرك يوماً تعنو فيه الوجوه، وتحف فيه القلوب، وتقطع فيه الحجج، يملك قهرهم بجبروته، والخلق داخرون له، يرجون رحمته، ويخافون عقابه وإنا كنا نحدث أن أمر هذه الأمة سيرجع إلى آخر زمانها أن يكون إخوان العلانية أعداء السريرة، وإنا نعوذ بالله أن يترك كتابنا إليك سوى المنزل الذي نزل من قلوبنا، فإنا كتبنا به نصيحة لك، والسلام عليك.
فكتب إليهما: من عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة ومعاذ بن جبل سلام عليكما، أما بعد، فإنكما كتبتما إلي تذكران أنكما عهدتماني وأمر نفسي لي مهم وإني قد أصحبت قد وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها يجلس بين يدي الشريف والوضيع، والعدو والصديق ولكل حقه من ذلك، وكتبتما فانظر كيف أنت عند ذلك يا عمر، وأنه لا حول ولا قوة عند ذلك لعمر إلا بالله، وكتبتما تحذراني ما حذرت به الأمم قبلنا، وقديماً كان اختلاف الليل والنهار بآجال الناس يقربان كل بعيد ويبليان كل جديد ويأتيان بكل موعود حتى يصير الناس إلى منازلهم من الجنة والنار.
وكتبتما تحدثان أن أمر هذه الأمة سيرجع في آخر زمانها أن يكون إخوان العلانية أعداء السريرة، ولستم بأولئك، ليس هذا بزمان ذلك، وأن ذلك زمان تظهر فيه الرغبة والرهبة، تكون رغبة بعض الناس إلى بعض لصلاح دنياهم، ورهبة بعض الناس من بعض، كتبتما به نصيحة تعظاني بالله أن أنزل كتابكما سوى المنزل الذي نزل من قلوبكما، وإنكما كتبتما به وقد صدقتكما، فلا تدعا الكتاب إلي، فإنه لا غنى بي عنكما، والسلام عليكما [8].