من الملاحظ أن الكثير من المسلمين عندما يدخل عليه شهر رمضان تراه وقد شمّر عن ساعديه، واجتهد محاولاً تحصيل أكبر قدر من العبادات المختلفة، ويأتي على رأس تلك العبادات: قراءة القرآن، فتجده وقد حدد لنفسه هدفًا بأن يختم القرآن عدة مرات خلال الشهر، وتراه حين تطبيقه لهذا الهدف قد لا يحرص على فَهْم ما يقرأ، أو إعمال عقله فيه، فضلاً عن التأثر به.

فهل الأفضل له أن يفعل ذلك، أم أن القراءة الهادئة المتأنية التي تبحث عن الفهم والتدبر والتأثر دون النظر لعدد الختمات هي الأفضل؟!

يُجيب عن هذا التساؤل الإمام ابن القيم -رحمه الله- فيقول: وقد اختلف الناس في الأفضل: الترتيل وقلة القراءة، أو السرعة مع كثرة القراءة، أيهما أفضل؟ على قولين: فذهب ابن مسعود وابن عباس -رضي الله عنهما- وغيرهما إلى أن الترتيل والتدبر مع قلة القراءة أفضل من سرعة القراءة مع كثرتها.

واحتجَّ أرباب هذا القول بأن المقصود من القراءة فهمه وتدبره والفقه فيه والعمل به، وتلاوته وحفظه وسيلة إلى معانيه.

وقالوا: ولأنّ الإيمان أفضل الأعمال، وفهم القرآن وتدبره هو الذي يُثمر الإيمان، وأما مجرد التلاوة من غير فهم ولا تدبر، فيفعلها البرُّ والفاجر، والمؤمن والمنافق.

وكان هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها، وقام بآية حتى الصباح.

وقال أصحاب الشافعي -رحمه الله-: كثرة القرآن أفضل، واحتجوا بحديث ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» (رواه الترمذي).. وقالوا: ولأنّ عثمان بن عفان قرأ القرآن في ركعة (مع أن هذا الأثر ضعّفه الترمذي، ووافقه الألباني).

والصواب في المسألة أن يقال: إن ثواب الترتيل والتدبر أجلُّ وأرفع قدرًا، وثواب كثرة القراءة أكثر عددًا، فالأوَّل: كمن تصدق بجوهرة عظيمة، أو أعتق عبدًا قيمته نفيسة جدًّا.. والثاني: كمن تصدق بعددٍ كثير من الدراهم، أو أعتق عددًا من العبيد قيمتهم رخيصة.

وقال شعبة: حدثنا أبو جمرة، قال: قلت لابن العباس: إني رجل سريع القراءة، وربما قرأت القرآن في ليلة مرة أو مرتين. فقال ابن عباس: لأنْ أقرأ سورة واحدة أحب إليَّ من أن أفعل ذلك الذي تفعل، فإن كنت فاعلاً ولا بُدّ، فاقرأ قراءة تُسمِع أذنيك ويعيها القلب.

وقال ابن مسعود: لا تَهُذوا القرآن هَذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، وقِفوا عند عجائبه، وحرّكوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد جرَّبنا القراءة السريعة، وكان هَمُّ الواحد منا الانتهاء من ختم القرآن، بل وكان بعضنا يتنافس في عدد المرات التي يختمه فيها خاصة في رمضان، فأيُّ استفادة حقيقية استفدناها من ذلك؟ وماذا غيّر فينا القرآن؟!

إن القراءة باللسان فقط دون مشاركة العقل بالفهم، والقلب بالتأثر، كالنخالة كبيرة الحجم قليلة الفائدة.. يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لا خير في قراءة ليس فيها تدبر". وقال الحسن البصري: كيف يرِقُّ قلبك وإنما همُّك آخر السورة؟!

ثم إنه إن كان الهدف من قراءة القرآن هو تحصيل الحسنات فقط لبحثنا عن أعمال أخرى أكثر ثوابًا منه، بينما لا يستغرق أداؤها وقتًا طويلاً كالتسبيح مثلاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال: سبحان الله وبحمده، في يوم مائة مرة، حُطّت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» (متفق عليه).. ولكن أمر القرآن غير ذلك، فلقد أنزله الله ليكون وسيلة للهداية والتغيير، وما الأجر والثواب المترتب على قراءته إلا حافزًا يشحذ همة المسلم لكي يُقبل على القرآن، فينتفع من خلال هذا الإقبال بالإيمان المتولد من الفهم والتأثر، فينصلح حاله ويقترب من ربه.

ومثال ذلك: الأب الذي يُحَفِّز ابنه على مذاكرة دروسه من خلال رصد الجوائز له..

يقينًا بأن هدفه من خلال رصده لهذه الجوائز هو انتفاع ابنه بالمذاكرة، وليس مقصده مجرد جلوسه أمام الكتاب دون مذاكرة حقيقية.

ولله المثل الأعلى؛ فلأنّه سبحانه يحب عباده ويريد لهم الخير أنزل إليهم هذا الكتاب الذي يجمع بين الرسالة والمعجزة.. ولكي يستمر تعاملهم معه ومن ثَمّ يستمر انتفاعهم بما يُحدِثه هذا الكتاب من تغيير في داخلهم يدفعهم لسلوك طريق الهدى، كانت الحوافز الكثيرة التي ترغبهم وتحببهم في دوام الإقبال عليه، ومنها أنّ لهم بكل حرف يقرءونه عشر حسنات.

ثم لنسأل أنفسنا هذا السؤال: أيهما أحب إلى الله: أن نقرأ القرآن كثيرًا، بألسنتنا فقط دون تفهُّم لخطابه، ولا تجاوب معه، أم القراءة الهادئة المُرتَّلة التي يفهم من خلالها القارئ مُراد الله من خطابه ويتأثر به؟

أليس الأحب إلى الله هي الصورة الثانية، ومن ثَمّ يكون الأجر والثواب مصاحبًا لها أكثر وأكثر من الصورة الأولى؟!

هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن القراءة الهادئة المرتلة بفهم وتأثّر تزيد الإيمان، وتولد الطاقة والقوة الدافعة للقيام بالأعمال الصالحة، فيترتب على القيام بهذه الأعمال الأجر والثواب الكبير، وهذا لا يحدث مع القراءة السريعة، قراءة الحنجرة فقط.

فإن قلت: لنجعل القراءة الهادئة المتأنية التي تراعي الفهم والتأثر في غير رمضان، أما خلال هذا الشهر فينبغي أن ننتهز فرصة مضاعفة ثواب الأعمال فيه، فنقرأ أكبر قدر ممكن من القرآن.

نعم، رمضان فرصة عظيمة للانطلاقة القوية، وذوق حلاوة الإيمان من خلال القرآن.

نعم، رمضان يصلح كنقطة بداية لمن يشكو عدم وجود همّة ورغبة في التعامل مع القرآن بتدبر وتأثر.. أما أن يكون التعامل مع القرآن في رمضان بطريقة تبحث عن الأجر فقط، ومن ثَمّ لا تُراعي الهدف الذي نرجوه، فهذا معناه أن نظل في أماكننا ندور في حلقة مفرغة؛ فقراءة القرآن بفهم وتأثر ينبغي أن تصاحبنا طيلة العام، بل إن الحاجة إليها تشتد أكثر وأكثر في شهر رمضان، باعتبار أنه فرصة جيدة ومناخ مناسب لإحياء القلب بالإيمان.

ولنعلم جميعًا أننا لو ختمنا القرآن في رمضان ختمة واحدة بتفهم وتأثر، فإن أثرها والثواب المترتب عليها سيكون بمشيئة الله أفضل من عشرات الختمات بدون فهم وتأثر.

يقول ابن القيم: لو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر، لاشتغلوا بها عن كل ما سواها.

فقراءة آية بتفكر خير من ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة القرآن.

وأخيرًا: أخي الحبيب: لقد دخلت الأمة إلى الغار، فسقطت صخرة وأغلقت بابه، والكل ينادي هل إلى خروج من سبيل؟ فهل نرتدي الأكفان وننتظر الموت، أم نبحث عن مخرج؟

إن الذي سيقودنا إلى المخرج موجود لكنه مهجور.. إن الذي نبحث عنه قريب منا، وأهلٌ لإخراجنا من الغار.. إنه القرآن.. إي وربي القرآن.. ألم يقل ربنا وخالقنا ومدبر أمرنا: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10].

فهيا يا أخي نُقبِل على القرآن، نقرؤه بفهم وترتيل وبصوت حزين.. واحذر من أن يكون همّك آخر السورة، بل ليكن همك الفهم والتأثر لتجد المخرج.

المصدر: موقع الإيمان أولا