26 / 06 / 2011
محمد مجاهد :
** لقد ترك لنا الجيل الأول الذي تربي علي يد الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم ميراثا ضخما من القيم والمبادئ، وشاءت إرادة الخالق سبحانه أن يتفاعل هذا الجيل مع الوحي العظيم المبين ليكون قدوة لكل الأجيال من بعده .
ولعل من أعظم الدروس التي يجب علي أبناء الدعوة والحركة الإسلامية عموما أن يفقهوها ويقفوا عندها ما كان من هذا الجيل الفريد في إيمانه بقدسية المبادئ والولاء لها ثم قياسه ووزنه للأفراد والهيئات بناءاً علي مدي القرب أو البعد من هذه المبادئ والأصول ، والأمثلة علي ذلك كثيرة .
فمن أبلغ الأمثلة الطريقة التي تعامل بها مجتمع الصحابة بالمدينة مع امتناع علمين من أعلام الصحابة عن بيعة الخليفة الأول أبي بكر الصديق، وهما علي بن أبي طالب وسعد بن عبادة.
فقد روى البخاري ومسلم وابن حبان حديثا طويلا عن امتناع عليٍّ رضي الله عنه عن بيعة الصدِّيق مدة ستة أشهر، ثم التحاقه بإجماع الصحابة السياسي بعد ذلك.ويظهر من هذا الحديث أن عليًّا -على مكانته العظيمة في قلوب المسلمين- عانى من عزلة قوية في مجتمع المدينة، خصوصا بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها، بسبب موقفه من خيار البيعة للصديق. ( "وكان لعلي من الناس وجهٌ حياةَ فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس،فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن بايع تلك الأشهر... وكان الناس قريبا إليه حين راجع الأمر المعروف") (صحيح البخاري 4/1549 ومسلم 3/1380 وابن حبان 11/153) . قال ابن حجر في شرح الحديث :( وكان لعلي من الناس وجهٌ حياةَ فاطمة)أيْ كان الناس يحترمونه إكراما لفاطمة، فلما ماتت واستمر على عدم الحضور إلى أبي بكر قصّر الناس عن ذلك الاحترام، لإرادة دخوله فيما دخل فيه الناس" (فتح الباري7/494) ، لقد راجع علي رضي الله عنه موقفه من بيعة الصديق لسببين :
أولهما : مافي قلبه من تقوى وبرٍّ يجعله يراجع الحق .
ثانيهما : ما لقيه من صدود من المجتمع المسلم، وهو يومئذ مجتمع حيٌّ يمارس حقه في إرجاع الخارج على الإجماع إلي الصف.
** وهذا سعد بن عبادة رضي الله عنه فقد كاد أن يأخذ البيعة لنفسه من الأنصار خليفة للمسلمين، ثم مال الناس إلى أبي بكر الصديق وتخلوا عن مبايعة سعد،فوجد في نفسه من ذلك التحول.
وانتقل سعد إلى ربه وهو يرفض البيعة لأبي بكر أو لعمر من بعده،لكنه اضطر تحت وطأة العزلة وسلطان المجتمع إلى مغادرة المدينة والعيش بقية حياته في الشام عيشة منعزلة، دون أي عمل سياسي.
وما كان سعد ليخرج من مدينته وهو سيد الخزرج - القبيلة المسيطرة في المدينة والمعروفة بجَلَدها في الحرب - إلا لأن سلطان المجتمع كان رافضا لمواقفه السياسية.
** وهذا هو المجتمع الايجابي الفاعل الراشد الذي يمارس سلطانه على حكامه وعلى أفراده،حتى لو كان أولئك الأفراد قادة في المجتمع وهاماتٍ سامقاتٍ في مستوى علي بن أبي طالب وسعد بن عبادة رضي الله عنهما.
**** واستكمالا لجمال وجلال الموقف والمثال فإن كلا من علي وسعد ( رضي الله عليهما ) لم يترجم موقفه السياسي إلى عنف أو فوضى , وإنما عبر كل منهما عن موقفه بالامتناع السلمي أو المجانبة الهادئة، وهوحقه الشرعي . كما أن الخليفة أبا بكر لم يمارس أي نوع من الإكراه على أيٍّ منهما ليحمله على البيعة، بل ترك الأمر لسلطان المجتمع. وهكذا تم احترام ضمير الفردوسلطان المجتمع معا، وتفاعل الاثنان دون عنف من جهة الفرد أو إكراه من جهة الدولة.. وتلك علامة المجتمع الراشد بحق .
** وإذا كنا نبغي بناء نهضة حقيقية لمصرنا وامتنا ، وعودة كريمة لسالف الأمجاد ، فلابد من تجسيد جديد لقيم الحق ومبادئه , والارتفاع عن مطالب النفس والفئة ، والتحليق مع الجيل القرآني الفريد الذي كان وبحق أساس النهضة ، فهل آن الأوان لنكون جميعا كعلي رضي الله عنه ، الذي ضرب المثل والأسوة وكان ساعد حق وصدق لأمته تحت قيادة الصديق أبي بكر ؟!
** إننا نريد معالجة فورية لظاهرة ضعف وزن المجتمع أمام الدولة وذلك بتقوية مؤسسات المجتمع فليست السياسة المدخل الوحيد للإصلاح ،فالمجتمع هو المعمل الذي ينتج الحضارة
فهل نري غدا بل الآن - ممن التبس عليهم الأمر أو رأوا أنهم علي أعمق فكرا وأبعد رؤية من شوري اجتمع عليها الفضلاء والكرام من قيادة الجماعة - عودة إلي البيت الكريم والتحاما بالصف والقيادة لنحقق سويا أهدافا وآمال وتكوينا لمجتمع قوي وأمة رائدة ؟!
فهل نسعى بجدٍّ إلى إقامة المجتمع ايجابي فعال متماسك متعاطف راشد قبل التفكير في الترشح لرياسة ،أو المشاركة في حكومة ؟!
** وهل آن لنا أن نفطن إلي منزلق الإعلام وخطورته ,وأنه منبر يجب أن يكون للبناء لا للهدم ، والتجميع لا التفريق ، والتوجيه والإرشاد لا للحيرة وبذر الشك ؟ !