يذخرُ التاريخ بالعديد من الشخصيات التي حفرت اسمها في عقول الكثير منا، وانطبعت في أذهاننا بالحكمة والقوة والسياسة والبطش والعلم والعمران والزهد والعدل، ومن بين هؤلاء عبدالرحمن بن محمد بن عبدالله المشهور بـ«عبد الرحمن الناصر لدين الله» حفيد صقر قريش «عبدالرحمن بن معاوية»، وُلد عبدالرحمن في 22 رمضان 277هـ/ ديسمبر 890م، وأمه جاريه إسبانية نصرانية تُدعى ماريا أو مُزنة، وبعد مولده بأسابيع قُتل أبوه محمد على يد أخيه المطرَف حسدًا وبغضًا، فتولاه جده بالرعاية وقرّبه حتى أصبح من خواصّه، وعهد إليه في بعض الأيام بالجلوس مكانه تمهيدًا لخلافته وتعضيدًا لولايته، وقد ظهر نبوغ ذاك الفتى منذ صغره فدرس التاريخ والفقه والحديث والنحو والشعر في سن مبكرة، والغريب أنه بالرغم من وجود أعمامه إلا أنه بويع بالإمارة – برغم صغر سنه فهو الشاب ذو الثلاث والعشرين ربيعًا- عقب وفاة جده الأمير عبدالله دون تصارع وتنافس من أعمامه، ولعل زهدهم في الملك كان نابع من اضطراب الأندلس، وبداية تفككه، وانهيار دولة بني أمية بعد سقوطها في المشرق.
يبدو أن المحن ولدت لدى الجميع نفس الشعور بمحاولة إيجاد الفارس الذي يرُم شعث الدولة، ويظهر ذلك من قول عمه الأمير أحمد بن عبدالله: «والله لقد اختارك الله على علم للخاص منا والعام، وتمام النعمة، وإلهام الحمد».
ويقول ابن عبد ربه صاحب «العقد الفريد» عند ارتقاء الناصر للعرش الأموي في الأندلس:
بدا الهلال جديدًا *** والملك غض جديد
يا نعمة الله زيدي*** ما كان فيك مزيد
إن كان للصوم فطر*** فأنت للدهر عيد
إمام عدل عليه*** تاجان: بأس وجود
ويظهر لنا من تلك الأبيات أنها تُعبر عن طبيعة أهل الأندلس في محاولة للبحث عن الأمير الذي يمتلك البأس؛ ليحزم الأمر، ويُعيد الدولة، ويجود على الناس فيوسع على المعسر، ويقوم المعوج، ويقيم البنيان والعمران، ولا أعلم بيت لخّص حياة الناصر بقوة مثل هذا البيت حيث جمع الرجل الخصلتين الأساسيتين للأمير وهما البأس والجود، ويبدو أن ابن عبد ربه كان نافذ البصيرة محقًا!
واقع مضطرب
تسلَّم الأمير الأندلسَ وقد أرهقتها الثورات، فابن حفصون في الجنوب، وبنو الحجّاج في إشبيلية وما حولها، وبنو ذي النون في طُليطلة وسط الأندلس، وموسى بن موسى في سرقسطة، وهجمات النصارى ومنها مملكة ليون بقيادة أردونيو الثاني على الغرب الأندلسي، فحاول الناصر أن يعيد للأندلس ما قام به جده عبد الرحمن الداخل من جعل الأندلس أمة واحدة، ومحو التفرق والقبلية منها، فلجأ الأمير لمعالجة الوضع الداخلي للدولة، حيث أصدر منشورًا لكافة الثوار بالعودة للطاعة والجماعة أو العقاب والحرب، فعاد البعض لرشدهم وأصر الآخرون على عنادهم فما هي إلا أسابيع حتى أرسل الأمير حملته الأولى بقيادة الوزير عباس بن عبدالعزيز القرشي، وكانت موجهة لقلعة رباح (Calatrava) للقضاء على ثورة الفتح بن موسى بن ذي النون فاستطاع جيش الأمير عبدالرحمن هزيمة الثائر، وسارت حملة أخرى لمدينة استجة (Écija) واستردتها من أيدي أتباع عمر بن حفصون الثائر الأقوى في الأندلس، ثم خرج الأمير على رأس الحملة العسكرية سنة 300هـ/ مارس 913م، فاتجه إلى الجنوب الشرقي فأمن إلبيرة (Elvira) ومالقة (Málaga) واستولى على العديد من الحصون التي كانت بيد عمر بن حفصون، واستمرت هذه المناوشات فترة كبيرة حتى بعد وفاة عمر بن حفصون سنة 306هـ، ولم تنتهِ تلك الثورات من أتباع ابن حفصون حتى عام 316هـ أي بعد وفاته بعشر سنوات. ولم تكن تهدأ الأمور حتى يظهر ثائر آخر، وفي نهاية الأمر استطاع الناصر أن يجمع تلابيب الدولة في يده ويورثها لابنه الحكم المستنصر دولة واحدة مجتمعة على حاكم واحد في قرطبة.
من الإمارة للخلافة
بعد أن استتب الأمر للأمير عبدالرحمن في الأندلس، أقدم على أمر جلل تمثّل في إعلان نفسه خليفة سنة 316هـ، ويبدو أنه اتخذ من الأوضاع بالمشرق الإسلامي سببًا صريحًا لشرعنة تلقبه بالخلافة، ففي المشرق لم يبق للخلافة العباسية إلا الاسم؛ فقد تحكّم بالخلافة بنو بويه، وتفرد محمد بن إلياس بحكم كرمان، وبنو حمدان بالموصل ، والإخشيديون بمصر وبلاد الشام، والفاطميون بالمغرب العربي، والقرامطة باليمامة والبحرين، والديلم بطبرستان وجُرجان، والسامانيون بخراسان، والبريديون بالعراق والأهواز. أمام كل هذا التشرذم في المشرق الإسلامي شعر الناصر بقوته بعد القضاء على أعدائه، وأنه آن له الوقت ليصبح الخليفة، ومع إقدامه على ذلك أضحى لدينا ثلاث خلفاء عباسي قابع في بغداد، وفاطمي في المغرب الأوسط، وأموي في الأندلس، وبرّر الفقهاء تعدّد الخلفاء إذا كانت هناك مصلحة تقتضي ذلك، وشرعنوا الأمر طالما بينهم مسافة جغرافية كبيرة. ويبدو أن الفقهاء- فقهاء السلطان- كانوا تُبع للحكام؛ إذ وصل الخلفاء الثلاثة المزعومون للحكم بالوراثة دون الشورى!
وبإصدار الناصر لهذا المنشور وتلقبه بأمير المؤمنين تحولت الأندلس من الإمارة إلى الخلافة، واستمر ذلك الأمر حتى سقوطها سنة 422هـ، وإعلان ما يسمى بحكم الجماعة الذي انقسم فيما بعد لحكم ملوك الطوائف،ويظهر التباين بين الخلفاء الثلاث فالعباسي يعتبر نفسه «سلطان الله في أرضه»، والفاطمي يرى أنه «الإمام المعصوم»، والأموي يرى نفسه «بشر يُصيب ويُخطيء»، ويتضح ذلك من النقد اللاذع الذي وجهه القاضي القرطبي المنذر بن سعيد البلوطي للخليفة الناصر في بنائه الزهراء واسرافه في تجميلها وتزييننها.
الحكم والعمران
تميزت سياسة الناصر في الحكم بالعديد من السمات اللافتة؛ منها بأسه الشديد في محاربة الثائرين من العرب والمولّدين، ومحاولة جذب الأنصار له بالمال والسلطان، وتأييده لكل عدو لأعدائه تبعًا للقاعدة الشهيرة «عدو العدو صديق» فناصر الأدارسة أعداء الفاطميين، وقسطنطين السابع الذى حاول استرداد صقلية من أيدي الفاطميين، واستخدم المال في إبراز الحضارة الأندلسية وتفوقها على ما سواها من المنافسين الإقليميين؛ فقرّب العلماء، وزاد في أُعطياتهم، وأغدق على الشعراء لنشر قوته وقوة دولته وانتصاراته فاستخدمهم كبوق إعلامي قوي لمواجهة أعدائه، حاول أن يخلد اسمه في التاريخ فبنى الزهراء، وأعاد تقسيم الأقاليم الأندلسية إداريًا محاولاً تركيز السلطة في يده، ومن أكثر سماته في الحكم حبه للمجد ومظاهر الملك وأبهته.
ولكن تلك السياسات التي تميزت بالبأس والحزم، دفعت الناصر للاستنجاد بدماء جديدة في دولته من أجل قبض سيطرته عليها؛ فاستخدم العنصر الصقلبي وبلغ الصقالبة من النفوذ ما لم يبلغه العرب وغيرهم في عصره، فكان منهم قادة الجيوش والوزراء وأصحاب النفوذ في البلاط. وقد أثّرت هذه السياسة على نفوس الزعماء العرب وغيرهم من المتطلعين لمثل هذه المناصب بالسلب؛ إذ أنشا من الصقالبة جيشًا كاملاً مدربًا، كما عمل على تقوية الأسطول الأندلسي لمجابهة الأسطول الفاطمي في البحر المتوسط، وزيادة الخناق على المتمرد عمر بن حفصون بسبب تلقيه إمدادات من المغرب في ذاك الوقت، وحصّن الثغور الأندلسية المواجهة للمغرب خوفًا من حدوث هجوم فاطمي، ويظهر لنا محاولة الناصر تحصين دولته من الفاطميين ومذهبهم خوفًا من انتشاره؛ لأنه الأخطر عليهم – كما رأى – من النصارى، فالنصارى عدو صريح مختلف في الديانة ظاهرًا وباطنًا أما الفاطميين فقد يختلط مذهبهم على العامة.
كما أنه قام بضم الجُزر المواجهه لجبل طارق لمحاولة إنشاء خط دفاع أول ومتقدم أمام الفاطميين، واستقطب رؤساء وزعماء القبائل في المغربين الأوسط والأقصى، وقام بتأييد الثورات والمؤامرات المعادية للفاطميين غير أن تحوّل الأطماع الفاطمية للمشرق حيث السلطة الروحية للمسلمين المتمثلة في الحرمين -فمن يسيطر عليهم يصبح الخليفة الروحي ومن ثم الفعلي للعالم الإسلامي- أنقذ الطرفين من صراع دموي طويل.
تميّز عصر الناصر بالنهضة العمرانية، وذلك للنشاط الاقتصادي الكبير للدولة، فبلغت جباية الأندلس في عهده خمسة ملايين وأربعمائة وثمانين ألف دينار، وكانت سياسته المالية في الإنفاق قائمة على تخصيصه لثُلث الأموال للجيش والأسطول، وثلث للبناء والتعمير، والثلث الأخير كان يدخّره لنوائب الدهر، ومن أهم آثاره العمرانية مدينة الزهراء والتي بناها متخيلاً أنها ستُبقي ذكره في العالمين فهو القائل: «عندما يريد الملوك أن يُذكروا بعد موتهم ، يجب أن يكون ذلك بلغة العمران، ألا ترى كيف بقيت الأهرامات وكيف ضاع الملوك في تقلبات الدهر؟». فابتنى عاصمة جديدة بجوار قرطبة لتليق بالخليفة ووفوده، وتنافس بغداد مقر العباسيين، والقاهرة مقر الفاطمين، ولقد أسرف في بنائها وفي بناء قصرها المسمى «المؤنس»؛ فقد زوّدها بنفيس الفراش والتحف والتماثيل والزخارف ، ولقد بقيت الزهراء مقر الخلافة حتى نقل المنصور محمد بن أبي عامر مقر الخلافة لمدينته الجديدة الزاهرة ليؤسس هو أيضًا لنفسه أثرًا يخلّد ذكره ، ويبدو أن هذه النظرة العمرانية دائمًا ما تسيطر على الملوك والحكام المحبين للمجد والشهرة، ويتضح لنا ذلك على مدار التاريخ، ونسى هؤلاء أن بناء الإنسان أهم من العمران وأن الحضارة والنهضة تقاس بالعدل وقيمة الإنسان، فعمر رضى الله عنه يذكر بيننا أكثر من الناصر، بالرغم من أنه لم يترك آثارًا ولا أبنية وعمران يمجد اسمه، فالإنسان أولاً وآخراً.