(1882م – 1935م)
من جبلة الأحرار أقبل شيخنا... ليثاً وحل بأرضنا يتحفَز... من بعد ما أعيا فرنسا ثائراً... ورفاقه لجيوشها قد أعجزوا... ذاكم هو القسَام رمز جهادنا... والكون يعرف ما القوافي توجز... فغدت له حيفا عريناً شامخاً... وبنو فلسطين الجريحة عزَزوا... فمضى يهيئ للجهاد كتائباً... شيباً ومرداً بالصلاح تميَزوا...كانت قناعته ونعم قناعة... بالسيف والإيمان حقك يحرز... أضحى له مرج ابن عامر جبهة... وجنين قاعدة بها يتركَز... وبحرش يعبد كان آخر واجب... لله قدمه الرفاق وأنجزوا... أكرم بهم أبطال حرب زينوا...بدمائهم علم البلاد وطرَزوا.
إنه عملاق الجهاد في فلسطين، الشيخ المجاهد الشهيد عز الدين القسام، الذي فهم الإسلامَ دين عزة وكرامة، وجهاد ودين، عدالة ومساواة، فعاش مع الناس همومهم، وجالسهم في المساجد، والمقاهي، والأفراح، والمآتم والمضافات، عاش متواضعاً في مأكله وملبسه ومسكنه، وكان يملك شخصية نشطة مؤثرة لبقة، جذابة وقوية الحجة، علّم الأطفال في الصباح، وفتح صفوف تعليم الكبار في المساء، وكان إذا خطب الجمعة أقفرت الشوارع، وتوافد الناس للاستماع إلى خطابه البارع، أسس حركة جهادية، تستمد فهمها من الإسلام، وتتبنى منهجه في العمل، وتتبنى الجهاد طريقاً وحيداً لتحرير فلسطين، فجاهد واستشهد على ثرى فلسطين الغالية، فكان استشهاده دفقة الدم التي سرت في كلمات مواعظه، فسلام على روحه الطاهرة، وسيرته العطرة، المليئة بالتضحيات الجهادية المشرفة، التي ستبقى نبراساً لكل الشرفاء المجاهدين.
الميلاد والنشأة والتعليم:
هو القائد المجاهد الشهيد عز الدين عبد القادر مصطفى يوسف محمد القسام، من مدينة جبلـة بمحافظة اللاذقية في سوريا، حارب الفرنسيين في سورية، وحكم عليه بالإعدام، فجاء هارباً إلى فلسطين، وقاد ثورة مع إخوانه الفلسطينيين ضد الانجليز، الذين كانوا يحتلون فلسطين آنذاك، تحت اسم الانتداب البريطاني، فخرجت ثورته من المساجد، وسقط شهيداً مقاتلاً على ثرى فلسطين الطاهرة، مدافعاً عن حقوق الشعب الفلسطيني المسلم، ليصبح رمزاً وطنياً للشعب الفلسطيني، وللأمة العربية والإسلامية على حد سواء، وقد أطلق اسمه على الكتائب المجاهدة، التابعة لحركة المقاومة الإسلامية حماس، كبرى الحركات الفلسطينية العاملة، والتي تقود العمل المسلح، والتي سميت بكتائب الشهيد عز الدين القسام، التي بدورها نفذت عشرات العمليات البطولية على أرض فلسطين.
ولد الشيخ عزّ الدين القسام في العام 1882م، في بلدة جبلة، إحدى عرائس البحر المتوسط، وكبرى المدن التابعة لحاضرة اللاذقية في سوريا، نشأ وترعرع في كنف والده العالم المتدين الشيخ عبد القادر مصطفى القسام، حيث كان والده من المشتغلين بالتصوف وعلوم الشريعة، وأمه حليمة قصاب من آل نور الكرام، حملة العلم ومصابيح الهدى، في بلاد الشام، ويتصل نسب الأسرة بالنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، تزوج والده من امرأتين، الأولى أمه حليمة، وأنجب منها فخر الدين وعز الدين ونبيهة، والثانية آمنة جلول، وأنجب منها أحمد ومصطفى وكامل وشريف.
أخذ من والده علوم العقيدة والفقه، وبلاغة اللغة العربية، والأحاديث النبوية الشريفة، فحفظ كتاب الله تعالى عن ظهر قلب، وهو لا يزال طفلاً يافعاً، وتتلمذ على أيدي الشيخ سليم طباره، أحد كبار علماء بيروت، فغرف من غزير علمه، وأفاد من توجيهاته، فاتسع أفقه، ومداركه وطموحاته، كان القسام منذ صغره يميل إلى العزلة والتفكير، في الأوضاع السياسية التي تمر بها الشعوب العربية والإسلامية، فسخر جهده ووقته وكل ما يملك لخدمة الإسلام والمسلمين.
تلقى دراسته الابتدائية في كتاتيب بلدته جبلة، وكان متفوقاً بين أقرانه، في الحفظ والفهم والوعي، فآنس منه أبوه ذلك، فقرر أن يعلمه في الجامع الأزهر بمصر، سافر الشيخ عز الدين القسام وهو في الرابعة عشر من عمره إلى مصر، في العام 1896م، مع أخيه فخر الدين، لدراسة العلوم الشرعية في الأزهر الشريف، طلباً للعلم، ورغبة في التعرف على الوافدين إليها، من أرجاء العالم الإسلامي، وصحبه صديقه عز الدين علم الدين التنوخي، حيث درس القسام في الأزهر الشريف، وكان من عداد تلاميذ الشيخ محمد عبده، والعالم محمد أحمد الطوخي، كما تأثر بقادة الحركة النشطة، التي كانت تقاوم المحتل البريطاني بصر، وبمدرسة الجهاد، التي أنشأها العالم الثائر محمد رشيد رضا، فانطلق ينهل من معين المجاهدين، ويتابع معهم أخبار العالم الإسلامي، والحركات الجهادية التي تبذل جهدها، لاستنقاذ ما يمكن استنقاذه، فكان يواكب ذلك بقراءات عميقة، في كتب العلوم الشرعية والعربية، وكتب التاريخ، وسير العظماء، حتى أكتسب ثقافة عريضة، كانت أوسع من الفسحة الزمنية، التي أمضاها في ردهات الجامع الأزهر، فاسقط هذه العلم وهذه التجربة على الواقع البائس دروساً وعبراً، فازداد ثورة ولهيباً وحزناً وألماً، من عيشة الخزي والهوان.
تزوج الشيخ عز الدين القسام من ابنة عمته أمينة نعنوع، وأنجب منها ثلاث بنات، خديجة وعائشة وميمونة، ثم ولد له عام 1923م ابنه الوحيد محمد.
الدور الذي قام به في سورية:
عاد الشيخ عز الدين القسام إلى جبلة عام 1903م، واشتغل بتحفيظ القرآن الكريم في كتّاب والده، وأقام مدرسة لتعليم القرآن واللغة العربية في مدينة جبلة، وعمل مدرساً في جامع السلطان إبراهيم، وأصبح بعد ذلك إماماً لمسجد المنصوري فيها، فذاع صيته بخطبه المؤثرة، وسمعته الحسنة، وشخصيته القوية، التي أيقظت البلدة من سباتها، ثم اشتغل لفترة مستنطقاً في المحكمة الشرعية، وانطلق إلى الناس في الليل والنهار يعلمهم، ويمسح عنهم دروب الجهل والهوان، بدأ يستقطب الفلاحين والعمال والفقراء، الذين كانوا يرون فيه القدوة، والعالم المحبوب، والصديق الصدوق، فأحبوه واستمعوا له وأطاعوه، فصار مثلهم الأعلى، وتميز بذلك عن غيره ممن عرفوا من المشايخ والوجهاء والزعماء، فشعروا بالظلم الواقع بهم، وتململوا، وأفصح بعضهم عن معاناته، فثارت ثائرة كبار الملوك، وعلموا أن الشيخ القسام وراء هذه التغيرات، فبدؤوا يكيدون له المؤامرات.
حربه ضد الفرنسيين:
كان الشيخ عز الدين القسام من العلماء المجاهدين بالقول والعمل، وكان كغيره من علماء الأمة، الذين يتصدرون المشهد، ويحاربون الظلم، ويقودون ثورات الشعوب، فحين هاجم الايطاليون ليبيا، قاد القسام مظاهرة طافت شوارع بلدته، تؤيد المجاهدين الليبيين، وتدعو الناس إلى التطوع ضد الايطاليين، ونجح في تجنيد مائتين وخمسين متطوعاً، وقام بحملة لجمع تبرعات ما يلزمهم ويلزم أسرهم، لكن الحملة الصغيرة لم توفق في التحرك لمؤازرة إخوانهم المسلمين في ليبيا.
وحين اشتعلت الثورة في سوريا ضد الغزاة الفرنسيين، رفع القسام راية المقاومة ضدهم في الساحل الشمالي لسوريا، وكان في طليعة من حملوا السلاح، حيث باع القسام بيته، وترك قريته الساحلية، وانتقل إلى قرية الحفة الجبلية، ذات الموقع الحصين، ليساعد عمر البيطار في ثورة جبال صهيون من العام 1919م، إلى العام1920م، وكانت هذه الثورة مدرسة عملية صقلت مواهب الشيخ، وقدراته القيادية والتنظيمية، وقد حكم عليه الفرنسيون بالإعدام، لأعماله الباهرة في مناهضتهم، وخبراته الموجعة التي وجهها لهم، لكنه لم يسقط في أيديهم، وفر هارباً من سوريا متوجهاً إلى مدينة حيفا بفلسطين.
إقامته في فلسطين:
بعد إخفاق الثورة في سوريا، ونجاح الفرنسيين في القضاء عليها، التجأ القسام إلى مدينة حيفا، بفلسطين المحتلة من قبل الانتداب البريطاني آنذاك، في العام (1340هـ - 1921م)، واستقر في قرية الياجور قرب حيفا، ولجأ معه من رفاق الجهاد الشيخ محمد الحنفي، والشيخ علي الحاج عبيد، ثم أرسل في طلب أسرته لتعيش معه، لم يعرف سكان حيفا عن عز الدين القسام، سوى أنه واعظ ديني، ومرشد سوري، حتى سنة 1935م، ورئيس جمعية الشبان المسلمين في مدينة حيفا، وكان بنظرهم شيخاً محمود السيرة، في تقواه وصدقه ووطنيته، كما كانت منطقة الشمال تعرفه إماماً وخطيباً بارعاً، ومأذوناً شرعياً في جامع الاستقلال، وهو الذي سعى في تشييده، فما أن استقرت قدماه في حيفا، حتى بدأ نشاطه الدعوي، من اليوم الأول، فنجح في كسب القلوب لعلمه وإخلاصه وصدق حديثه، فعمل مدرسّاً في المدرسة الإسلامية بحيفا، وفي ذات الوقت خطيباً لجامع الاستقلال، وانتسب إلى جمعية الشبان المسلمين في حيفا في العام 1926م، ثم ما لبث أن أصبح رئيساً لها، وعين منذ العام 1926م، مأذوناً من قبل المحكمة الشرعية.
جهاده في فلسطين:
في تلك الأثناء كان الخطر الصهيوني يتسع يوماً بعد يوم، وتبرز خطورته دون أن يتصدى له أحد، وكان الإنجليز يتولّون حماية المخطط الصهيوني والتمكين له، ولم يكن هناك حل لمواجهة هذا الخطر الداهم، سوى المواجهة والجهاد، فلن تجدي السياسة مع قوم يتخذون الكذب والنفاق، والحيلة والدهاء، سياسةً وديناً ووسيلةً، للوصول إلى مآربهم الاستعمارية، ولم تكن هذه السياسة لتخفى على رجل مثل عز الدين القسام، الذي أدرك بجلاء أنه لابد من محاربة الاحتلال الانجليزي، والتصدي له، وأن السبيل إلى ذلك هو الثورة المسلحة، والجهاد الدامي، وتعبئة الجماهير لتأييد الثورة ومساندتها، وكان القسام يعرف هدفه جيداً، بعد أن تجمعت لديه خبرات متعددة، فبدأ في تشكيل تنظيم سري، يربى فيه المجاهدون، ويتم إعدادهم إعداداً عسكرياً وإيمانياً، فأبدى قدرة فائقة على التنظيم، واختيار الأعضاء، والقيادة، وسبل الإمداد والتسليح، والعمل على ربط الجانب الجهادي بالجانب الاجتماعي، وتعميق الوعي بينهم، وساعده في ذلك احتكاكه بالناس، والأدوار التي يقوم بها، من خلال المواقع المختلفة التي يعمل بها.
اعتنى القسام بالتنظيم الدقيق للخلايا السرية، التي أعدها لمجاهدة الانجليز، فكون وحدة الدعوة إلى الثورة، ووحدة الاتصالات السياسية، ووحدة التدريب العسكري، ووحدة شراء السلاح، ووحدة التجسس على الأعداء، وكانت نفقات هذه المجموعات تعتمد بشكل أساس على اشتراكات الأعضاء المؤمنين بالعمل ضد الغاصب المحتل.
أشيع في العام 1929م، أن اليهود يريدون أن يحرقوا مسجد الاستقلال بحيفا، فاقترح بعض الوجهاء أن يطلبوا المساعدة من الإنكليز، لكن الشيخ القسام رفض رفضاً قاطعاً، وقال إن دمنا هو الذي يحمي المسلمين، ويحمي مساجد المسلمين، وليست دماء المحتلين، فكان يرفض أي حوار أو معاهدة مع الإنكليز، بدأت عمليات الإعداد تؤتي ثمارها، فشهدت المنطقة أعمالاً بطولية عظيمة، وشهدت في أوائل سنة 1935م، مناطق جنين ونابلس وطولكرم، سيلاً من عمليات صيد الضباط الانجليز، ونسف القطارات، والهجوم على معسكرات الجيش البريطاني، وقتل المتعاونين مع الانجليز، وكانت هذه العمليات تتم في جنح الظلام، وفي فترات متعاقبة غاية في الدقة والتنظيم والسرية، الأمر الذي أقلق القوات الانجليزية، وبث في قلوبهم الفزع والرعب، فسرت في قلوب المجاهدين والناس روح الحماسة، وقويت فكرة الجهاد، بعد أن ازداد أعداد اليهود المهاجرين إلى فلسطين، ومحاباة السلطات البريطانية لهم، ومساعدتهم على التمكين والاستمرار.
في إحدى خطبه بجامع الاستقلال، كان يخبئ سلاحاً تحت ثيابه، فرفعه وقال: "من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فليقتنّ مثل هذا"، فتم أخذه مباشرة إلى السجن، وتظاهر الناس لإخراجه، وأضربوا إضراباً عاماً، حتى تم خروجه من السجن، كان يقول للناس في خطبه: هل أنتم مؤمنون؟ ثم يقول للناس: إن كنتم مؤمنين فلا يقعدنّ أحد منكم بلا سلاح وجهاد.
نشاطاته الثورية وتفعيل المقاومة:
اتصل الشيخ عز الدين القسام، بالملك فيصل في سورية، طلباً لمؤازرته في ثورته، فوعده ولم يثمر وعده عن شيء، واتصل بالحاج أمين الحسيني، مفتي فلسطين الأكبر، وطلب منه أن يهيئ الثورة في منطقته، فأجابه بأنه يرى أن تحل قضية فلسطين بالطرق السلمية، عن طريق المفاوضات، واتصل مع الأمير راشد بن خزاعي الفريحات، من شرق الأردن، للمؤازرة وليهيئ الثورة ضد الانتداب البريطاني وأعوانه، في شرق الأردن، وقد قدم الأمير الخزاعي إمداداً مباشراً وقوياً للشيخ القسام، بالمال والسلاح، فضلاً عن توفير الحماية للثوار الفلسطينيين، في جبال عجلون الحصينة، من فترة لأخرى، الأمر الذي استدعى من الأمير راشد وقبيلته، ومعظم عشائر الشمال الأردني، للمواجهة مباشرة مع النظام الأردني، وخاصة مع الملك عبد الله الأول، والانتداب البريطاني، الذي حاول تصفية الأمير الخزاعي، بقصف مواقعه، وقتل كثير من الثوار الأردنيين، الموالين له في ذلك الوقت، مما اضطره بعدها إلى مغادرة الأراضي الأردنية، إلى السعودية عام 1937م، واندلعت على إثر لجوئه ثورة في جبال عجلون، امتدت بعدها لنطاق واسع في إمارة شرق الأردن.
القسام يعلن الثورة:
كانت ثورة القسام نموذجاً مثالياً، فكانت انطلاقتها انطلاقة عقائدية وشجاعة، في مرحلة كاد اليأس فيها يعم البلاد، فلاقت تأييداً واحتراماً من الشعب، بلغ الحد الأقصى، وذلك على الرغم من أنها لم تكن ثورة شاملة، بالمعنى السياسي والتاريخي للكلمة، ولم يخف على الانجليز ما يقوم به القسام ورفاقه، من إعداد الرجال للجهاد المقدس، وأنه ليس بعيداً عن الأحداث التي بدأت تعم البلاد، فراقبت تحركاته، وضيقت عليه، فلم يجد القسام بداً من إعلان الثورة على المحتل، وأن يكون هو على رأس المجاهدين، بعد أن كشفت القوات البريطانية أمره في 15 نوفمبر، عام 1935م، فتحصن الشيخ عز الدين القسام، ومعه 15 فرداً من أتباعه، في أحراش يعبد، في جنين، وأعلنوا الثورة على الانجليز، والاستعداد للعمل الجهادي، وتشجيع أهالي المناطق المجاورة على الثورة، فلحقت بهم القوات البريطانية في 19/11/1935م، بقوات كبيرة، فطوقتهم وقطعت الاتصال بينهم وبين القرى المجاورة، وطالبتهم بالاستسلام، لكنهم رفضوا واشتبكوا مع تلك القوات، وأوقعوا فيها أكثر من 15 قتيلاً، ودارت معركة غير متكافئة بين الطرفين.
استشهاده في أحراش يعبد:
علم الشعب أن الشيخ عز الدين القسام اعتصم مع إخوانه، في أحراش قرية يعبد، وكانوا مسلحين، ولا يهابون خطر المجابهة، مع قوات الانتداب البريطاني، ولا عواقبها، إلا أن قوات الأمن، كانت قد أعدت قوة هائلة، تفوق عدد الثوار بمئات المرات، وكانت كقطيع كبير من الجيش، ومصمّمة على القضاء على الشيخ عز الدين وأتباعه، فلذلك أحاطت القوات بالمنطقة منذ الفجر، ووضعت الشرطة العربية في الخطوط الهجومية الثلاثة الأولى، من ثم القوات البريطانية، وقبل بدء المعركة، نادى أحد أفراد الشرطة العربية الثائرين، طالباً منهم الاستسلام، فرد عليه القسام صائحاً: "إننا لن نستسلم، إننا في موقف الجهاد في سبيل الله"، ثم التفت إلى رفاقه وقال:"موتوا شهداء في سبيل الله خير لنا من الاستسلام للكفرة الفجرة".
دامت المعركة ست ساعات، كان خلالها الرصاص يصم الآذان، والطائرات المحلقة على ارتفاع قليل، تكشف للمهاجمين مواقع الثوار وقوتهم، وفي النهاية، أسفرت المجابهة عن استشهاد القسام، ورفاقه يوسف عبد الله الزيباري، وسعيد عطية المصري، ومحمد أبو قاسم خلف، وألقى الأمن القبض على الباقين من الجرحى والمصابين.
اكتشفت قوات الأمن عند نهاية المعركة، الشيخ عز الدين القسام، ذا اللحية البيضاء، المجندل على التراب بملابسه الدينية، بعد أن تدرج بدمائه الطاهرة، وفاضت روحه إلى بارئها، وفي يده مسدساً كبيراً، وفي جيبه مصحفاً وأربعة عشر جنيهاً، فكان يوم العشرين من تشرين الثاني "نوفمبر" سنة 1935م، يوماً مشهوداً، أصبح القسام فيه علماً من أعلام الجهاد، يتردد اسمه في بلاد فلسطين كلها، وقد خلف وراءه ألفاً من المجاهدين الأبطال، الذين ظلوا يقاتلون بضع سنين، وكانوا بداية الجهاد الحقيقي الصادق لأعداء الله، على أرض فلسطين في عصرنا الحديث.
التشييع:
لقد كان لاستشهاد الشيخ عـز الدين القسام، وقع بليغ هائل، في نفوس أبناء فلسطين، فلقد ألهبت حركته واستشهاده في الشعب الفلسطيني الحماس والهياج، فصارت مثلاً رائعاً للجرأة والجهاد العلني ضد المستعمر، فما أن شاع خبر استشهاد الشيخ عز الدين القسام، حتى اهتزت فلسطين كلها لاستشهاده، فكانت جنازته يوماً مشهوداً، وكأن فلسطين كانت تُولد روحياً ولادة ثانية، نُقل الشهداء إلى حيفا، وتمت الصلاة عليهم في جامع الاستقلال، وشُيعت الجثامين الطاهرة بتظاهرة وطنية كبرى، نادت بسقوط الإنجليز، ورفض الوطن القومي اليهودي، ورجموا أثناءها أفراد البوليس بالحجارة، فخرج آلاف الفلسطينيين يحملون الشهداء الثلاثة، بثيابهم الطاهرة، التي خضبها الدم، للمقبرة في قرية الشيخ، التي وارى فيها الشهيد عز الدين القسام الثرى، وصلى عليه الفلسطينيون صلاة الغائب، وكان استشهاد القسام ورفاقه، والمشاركة الكبيرة للجماهير الفلسطينية في التشييع، صفعة مدوية على وجوه الزعامات، التي أنهكتها الصراعات والتكالب على المكاسب، فجرفتها عن المصلحة الوطنية الحقيقية، فهي لم تخرج في جنازته، بل سارعت إلى لقاء المندوب البريطاني، لتحذيره من أن عدم التجاوب مع مطالبهم السياسية، سيقوِّض نفوذهم الجماهيري، ويؤدي إلى انتشار الأفكار المتطرفة في صفوف الجماهير.
استهداف قبر القسام:
رغم مرور عشرات السنين على استشهاد الشيخ عز الدين القسام، إلا أن اليهود لا يزالون يرونه عامل تحريض للفلسطينيين على المقاومة، فاستهدفوا قبره المرة تلو الأخرى، وتوالت الاعتداءات على المقبرة التي دفن فيها الشيخ المجاهد، وأخذت طابعاً جدّياً في إزالة قبره والعبث فيه، وتعرضت المقبرة مرات للتدمير والعبث, حيث تم اقتلاع الأشجار المزروعة فيها، وتحطيم السياج، وجرف الأراضي، وانتهاك حرمة القبور والأموات، ومنها قبر الشيخ القسام، وعندما أحس المسلمون في مدينة حيفا بهذا المخطط، بتقويض مقبرة الشيخ عز الدين القسام، عمل متطوعون على مدى أسابيع على حمايتها، خوفاً من تعرضها للتدنيس على أيدي اليهود.
على خطى القسام:
أصبح الشهيد عز الدين القسام رمزاً للمقاومة والجهاد، فأُطلق اسمه على الكثير من الجهات الجهادية والمساجد والمؤسسات، وقد أطلقت حركة المقاومة الإسلامية حماس اسمه على كتائبها العسكرية، التي تصدرت العمل الفدائي في فلسطين، منذ أوائل الثمانينات، وواجهت العدو الصهيوني بعملياتها الاستشهادية، كما أُطلق اسم القسام على الصواريخ، التي تطلقها فصائل المقاومة الفلسطينية، على المستعمرات الصهيونية، ليظل اسم القائد المجاهد الشيخ عز الدين القسام خالداً في العالمين، مع كل طلقة حرة، وكل مقاومة باسلة، وكل جهاد مقدس، فسلام عليك يا شيخنا المجاهد عز الدين القسام في حياتك، وسلام عليك بعد استشهادك، وستبقى ذكراك خالدة في قلوب وعقول كل الأحرار والشرفاء.