في ذكرى حرب الفرقان.. براء نزار ريان نجل الشهيد نزار ريان يحكي ذكرياته مع الحرب
 
يقول براء :
 أعجبُ ما يسمعُ النّاس منّا هو حديثنا عن الوالدة رحمة الله عليها، والخالات الكريمات، كيف اتّفقن جميعًا على البقاء معه، واختيار الشهادة على التشرد والذلّ وكسر كلمة المسلمين أمام جبروت المحتلّ.
والحقّ يُقال: إنهنّ كنّ شريكات قرار الوالد، ولعلهنّ كنّ أكثر حماسةً للمكث في المنزل منه، وقد قلن: نحن لا نذهب إلى الموت، إنّما نجلسُ في بيتنا، وإذا جاءنا لن نفرّ، لن نُهجّر من بيوتنا بتهديد الجبناء.
ولا عجب والله في موقفهنّ فإني محدثكم عنهنّ رحمة الله عليهنّ.
أما الوالدة رحمها الله، فكان والدي لا يصفها إلا بالمجاهدة، فهي من بيت مجاهد، ابنة مجاهد وأخت استشهاديّ، ولحق بها أخ آخر، وربّت أولادها على حبّ الجهاد في سبيل الله، فاستشهد ابنها إبراهيم في عملية مزلزلة، وأصيب معظم أبنائها الباقين، مرارًا.
وقد شهدتُّها حين جاءها خبر أخيها الاستشهادي صهيب تمراز؛ كنا وحدنا في البيت أنا وهي إذ جاءت إحدى بنات خالي؛ فهَمَسَت لها بكلمةٍ في أذنها لم أسمعها، كانت الكلمةُ خبرَ استشهاد شقيقها/خالي.
فما كان من أمي إلا أن قالت: “لا إله إلا الله.. محمد رسول الله، اللهم آجرني في مصيبتي، واخلفني خيرًا منها، إنا لله وإنا إليه راجعون”، وبكت يرحمها الله بصمت، ثم أمسكت بيدي، وذهبت برفقتي إلى بيت أهلها.
وحضرتُ لحظة جاءها خبر شقيقي إبراهيم فلذة كبدها، فيشهد ربّي لقد زغردت زغرودة لم أسمع في حياتي أصدق ولا أعلى منها.
وكان والدي رحمه الله يعدل بين زوجاته عدلًا عجيبًا، قلّ أن ترى مثله، فيقسم الأيام والساعات، والسوق والفواكه والفسحات وكلّ شيء، وكان يخصّ الوالدة يرحمها الله بأشياء برضا الخالات الكريمات، أهمها ما يتعلق بولدها الشهيد، فمن ذلك أنه كره أن ينقص غياب إبراهيم من نصيب الوالدة، فكان يقسم له في كل شيء يشتريه، كأنه باقٍ عندها، فكانت الوالدة إذا حضر ضيفٌ أطعمته نصيب إبراهيم، واحتسبته أجرًا له.
وكانت بعضُ المؤسسات التي تهتمّ بالشهداء تعطي مستحقّات عن إبراهيم رحمه الله، فكان الوالد لا يأخذ منها قرشًا، وله بالميراث معظمها، وكان يتركها كلها للوالدة تعزية وتسلية لها، وكانت كثيرة الإنفاق والتصدق منها رحمها الله.
ومن مراعاته لها أنّه لم يسمّ أحدًا من إخوتي باسم إبراهيم إذ رزقه الله أولادًا كثيرين من غيرها بعد استشهاد إبراهيم، فأمرني وبلالًا أن نسمي إبراهيم، وكان يرغب أن يسمي هو، لكنّه لم يفعل مراعاة للوالدة رحمها الله، أن يكون في الدنيا إبراهيم نزار ريان غير ولدها الشهيد.
أما أم عبد الرحمن عليها رحمة الله فكانت آية في الذكاء والفهم وحسن المنطق والبراعة في كل خير، كانت موظّفةً بإحدى المؤسسات براتب كبير، فلما رزقها الله آية رحمها الله _أولى بناتها_ تركت وظيفتها وتفرّغت لبيتها.
وكان والدي أرسلني إليها في الحرب في أمر، فحبستني وقالت: اصبر قليلًا، أريد أن أقول لك شيئًا.
فقلتُ قولي: قالت: أرسلتُ إليك رسالة بالجوال قبل مدة، فلم تجب؟ أنت زعلان؟ 
أجبتُ: مطلقًا يا خالتي، ألا تعرفين نسياني وتقصيري، فتخلّيت عن استعجالي، وجلستُ فشربتُ معها الشاي وتجاذبنا أطراف الحديث حتى اطمأنّ قلبُها ثمّ قبّلتني ومضيت. فلمّا قضت حمدتُّ الله كثيرًا على أنها راجعتني.
ولمّا استشهدت كنتُ والله من عثر على جثمانها بين الركام، فكان حجابها قد غطّى وجهها، فلمّا كشفتُه عنه أضاء.
وأمّا أم علاء، فيشهد الله أنني أظنّها من أوليائه الصالحين وعباده المقرّبين، كانت أمّنا بعد أمّنا، وكما قال شقيقي بلال: لولا برّ الوالدة، لناديتُها يا أمي، ولعلّها كانت أشبه نساء الوالد به طبعًا وخلقًا وسمتًا.
وأمّا أم أسامة فكانت امرأة فريدة حقًا، تزوّجها الوالد عن رغبة ورضا وبينهما فارق سنّ كبير، وكانت صبيّة كاملة كما يقول النّاس.
ولمّا زوّجها أبوها عتب عليه بعض السفهاء، فقالوا: زوّجتها على ثلاث ضرائر، ولرجل يكبرها كثيرًا.
فقال عمي أبو رامي (والدها): والله لقد زوّجت أخواتها لخيرة شباب المعسكر، فما فيهم مثله، ولا أظنّ فتاةً تجد زوجًا خيرًا من رُبعه. ووالله لو أنها تموت عنده لأزوجنّه ابنتي هذه الأخرى.
وقد حفظتْ عندنا الكتاب الكريم، وأتمت دراستها في كلية أصول الدين، فذبح الوالد عند إتمامها الحفظ، وأولم لأهل البيت وليمةً احتفالًا بذلك.
وكانت زميلتي في الدراسة، فكنتُ أدرّسها كثيرًا، ودرّستُها مرّة بحضرة والدي، فأعجبه شرحي، وقال لها: ينبغي أن يُدرّس في الجامعة. فأخبرتني بما قال.
وكان الناس يعجبون من اتفاقهنّ وطيب العلاقة بينهنّ، وأذكر في ذلك قصّةً طريفة.
ذلك أن خالتي أم أسامة مرضت، فأخذتها خالتي أم علاء إلى المستشفى، وكانت أم علاء امرأة رقيقة، فظهر عليها القلق على صحة أم أسامة، فقالت لها الطبيبة: لا تقلقي يا أختي، ابنتك بخير. 
فضحكتا، وقالت: ليست ابنتي. قالت: إذن أختك، قالت: ولا أختي. 
قالت: إن فما القرابة؟ فضحكت وقالت: هي ضرّتي، ولكنها مثل أختي، فقالت الطبيبة: الله أكبر.
وكنّ يطفنَ في الحرب فيعزّين في الشهداء، ويساندْنَ أهاليهم، ويواسين، حتى آخر دقائق عمرهن.
وكنّ إذا تذاكرن الوالد وخطر اغتياله، زعمت كلّ منهنّ أنها الشهيدة معه، فكنّ جميعًا، نسأل الله أن يكن ممن صدق الله فصدقه.