27/12/2009

رحلة طويلة من الاعتقال إلى الإبعاد، فالاعتقال مجددًا بين سجون الاحتلال الصهيوني وأقبية سلطة أوسلو.. تلك التي عاشها المجاهد القسامي والضابط في جهاز الأمن والحماية عرفات ماضي (36 عامًا) ولكنها تبدو هينةً مقارنةً بما واجهه خلال "معركة الفرقان"، التي لا يزال هو وأقرانه غير مصدق كيف نجا من القصف وعاد إلى الحياة من جديد؛ بعد أن وُضعت جثته داخل الثلاجة مع عشرات الجثث للشهداء قبل اكتشاف أنه حيٌّ يُرزق.

فبعد أن تعرَّض المقر الرئيسي للأمن والحماية في غزة ضمن المقرات التي تعرَّضت للقصف في الموجة الأولى للعدوان قبيل ظهر السبت 27 (ديسمبر) 2008م، نُقل جثمان ماضي الذي تمَّ انتشاله من تحت الأنقاض مع جثث زملائه وإخوانه إلى ثلاجة الموتى؛ بعد أن كان مشهد الجثث المحروقة والمفرومة يوحي أنهم جميعًا ارتقوا شهداءَ، خاصةً أن تدفُّق عشرات الشهداء والجرحى بعد الضربة الأولى جعل من الصعب التدقيق في الحالة. 

 
الاجتماع الطارئ

يتذكَّر ماضي الذي يعيش في مخيم خان يونس تفاصيل ذلك اليوم؛ الذي لا يمكن أن يُنسى من الذاكرة، كيف توجه برفقة مسؤول جهاز الأمن والحماية الشهيد العقيد إسماعيل الجعبري، والرائد محمد حجاج قبيل ظهر السبت إلى مقر الجهاز غرب غزة؛ لعقد اجتماع خاص لنخبة من الضباط؛ بهدف مناقشة خطة الطوارئ والتعامل مع حالة حرب محتملة لم تمهلهم لتنفيذها، فحملها رفاقهم ونفَّذوها بحذافيرها ليُفشلوا مراد الاحتلال بانهيار واستسلام حركة "حماس" في قطاع غزة.

وقال ماضي : "كنا (13) ضابطًا من الأمن والحماية، كان لقاؤنا يهدف إلى مناقشة خطة طوارئ، لم نكد نجتمع حتى بدأ القصف الذي اكتشفت لاحقًا أنه كان موجةَ عدوان واسعة جدًّا طالت غالبية المقرات المدنية والأمنية التابعة للحكومة".

صمت لحظات قبل أن يضيف: "بكل تأكيد لا أستطيع تخيل ما جرى كانت لحظات بسيطة.. كنا متجمِّعين وانتهى كل شيء على وقع انفجارات هائلة". 

تكبير وترديد الشهادة من تحت الركام

عاد عرفات ليصمت وبدا التأثر على وجهه، واستأنف حديثه: "لا أدري كم مرَّ من الوقت عندما كنت في حالة بين الوعي واللا وعي، كان المكان مدمرًا، بالكاد كنت مركزًا، كل ما أذكره أنني كنت أردِّد وأسمع أصوات كل من كان في القاعة إلى جانبي يردِّدون الشهادتين ويكبرون ويهللون (العقيد الجعبري، ونائبه المقدم محمد الأشقر، والرائد حجاج، والرائد عبد الكريم جربوع، والنقيب سامر أحمد).. هؤلاء استُشهدوا نتيجة القصف بشكل سريع إثر ذلك.

 ولم تدُم لحظات الاستيقاظ طويلاً، فسقط عرفات في الغيبوبة ليستيقظ منها ليجد نفسه في أغرب مكان يمكن أن يجد إنسان نفسه فيه، فقد وجد نفسه ملقى على عدد من جثامين الشهداء في ثلاجة الموتى بمستشفى "الشفاء" بغزة، والمواطنون يتجمَّعون على البوابة وهم يرددون هتافات التكبير. 


في ثلاجة الموتى!

ابتسم وهو يقول: "تخيل نفسك تصاب وتستيقظ لتجد نفسك بدلاً من سرير الشفاء في ثلاجة الموتى"، وأضاف: "لا شك أنهم معذورون، فمشهدي وملابسي الممزقة والدماء التي تغطي جسدي والغيبوبة التي كنت فيها وحالة بقية الشهداء فضلاً عن حجم الدمار الذي حل بالموقع الذي شاهدته فيما بعد؛ كان لا يوحي بأنه سيبقى أحد على قيد الحياة". 

صراخ بلا مجيب والمنقذ حركة اليد اليسرى

وذكر عرفات أنه حاول أن يهتف على الناس كي يخرجوه من الثلاجة وأنه لم يستشهد، ولكن يبدو أن الكلام لم يفارق حنجرته، أو أن توتر الجماهير وهتافها حال دون سماعها؛ حتى استطاع أن يحرِّك يده اليسرى ويتمكَّن أحد الحضور من مشاهدته لتبدأ هتافات أخرى وهم يردِّدون "حي حي"؛ ليتم نقله إلى غرف المستشفى ليجد نفسه ممدّدًا في ممراتها إلى جانب مئات الجرحى الذين كانت لا تزال سيارات الإسعاف تنقلهم إليها.
 
وأضاف: "مضى وقت من الصعب تحديده حتى جاء عدد من الأطباء الذين كانوا يبحثون عمن ينقذونه بين الجرحى، كان من الواضح أنهم يبحثون عن ذوي الجراح الأقل خطورةً لتوفير الجهد وزياة فرصة النجاة"؛ لذلك لم يكن من المستغرب أن يتم تجاهله لبعض الوقت، فهو كان يلفظ أنفاسه الأخيرة كما سمعها كرجع الصدى من أحد الأطباء.

وخلال هذه اللحظات العصيبة لم يتوقف لسان عرفات عن ترديد الشهادتين، وهو يشعر أنه بات قريبًا إلى لقاء الأحبة الذين عرفهم في تاريخ الجهاد والتضحية، وهو يشعر بالعجز حتى أن يصرخ على طبيب ليهتم بحالته، حتى شاهد أحد الشباب الذين يعملون معه في الأمن والحماية؛ فأمسك به من ساقه كالغريق الذي يتعلق بقشة لينجو من الغرق في البحر الهائج.

وقال: "حاولت أن أعرِّفه بنفسي فلم أستطع، ولم يعرفني الشاب، بعد فترة تمكَّنت من رفع صوتي قليلاً، وسمع اسمي فلم يصدق..  أكدت له هويتي فذُهل، لم يحرك ساكنًا فترةً من الوقت قبل أن ينقلني بمساعدة بعض الشباب إلى إحدى الغرف. 

إصابات قاتلة

عاد ليصمت مجددًا قبل أن يردِّد "الحمد لله الحمد لله"، ومن ثم يستكمل: "كنت في هذه اللحظات الصعبة في أهدأ لحظات حياتي، كنت مستسلمًا شعرت أنها رحلتي الأخيرة في هذه الدنيا رددت  الشهادتين براحة كبيرة، وما زاد اقتناعي بذلك أن قدمي ويدي اليمنى قد بترتا، وأن جسدي متضخم بشكل كبير جدًّا حتى إن جزءًا من دماغي كان خارج رأسي".

 أطرق برأسه وقال: "رحمهم الله وتقبلهم من الشهداء، لقد تعرض كل من كان معنا في الاجتماع إلى ذات الشكل من الإصابة.. انفجر دماغ الشهداء وانسحب إلى خارج الرأس، بينما من بقي منا على قيد الحياة انسحب دماغه دون انفجار كبير له".

من هول ما حلَّ به لم يدرك ماضي أن القصف الذي استهدف موقع الأمن والحماية ما هو إلا جزء من عملية قصف غاشمة طالت عشرات ومئات المواقع في ذات التوقيت، مشيرًا إلى أنه لم يدرك ذلك إلا في اليوم الثاني من إصابته؛ حيث بدأ يعي بعض الشيء ما يدور حوله، وعلم حينها باستشهاد الأحبة ورفاق السلاح. 

القصف بعد أسبوع يطال المنزل

وكأنه لم يكن يكفيه وقوعه بين الحياة والموت، فأقدمت قوات الاحتلال مستكملةً مسلسلها الوحشي لتقصف منزله في مخيم خان يونس وتدمره بعد ثمانية أيام من بدء الحرب؛ الأمر الذي دفع عائلته إلى الانتقال لشقة أخرى تعرضت للتهديد، علمًا أن المنزل الأول سبق أن تعرض للتدمير خلال حملة عدوان سابقة كان يجري فيها الاتصال على ذوي المجاهدين وإبلاغهم بإخلاء المنزل خلال دقائق لقصفه.

 وعلى مدار ثمانية أشهر امتدَّت رحلة علاج المجاهد والضابط عرفات عانى خلالها من جروح في مختلف أنحاء الجسم، كان أخطرها جروح الرأس وكسر ثلاثٍ من فقرات العمود الفقري، قبل أن يعود لعمله الذي كان بحاجة أكبر إليه وإلى خبرته؛ لكونه فقد نخبة من قادته المركزية في عمليات القصف الجبانة، بعدما ارتقوا شهداء. 

العودة للعمل وعزيمة لا تلين

وبالرغم من رحلة المعاناة التي عاشها المجاهد عرفات والتي تبدأ أصلاً بمعاناته كلاجئ هجِّرت عائلته من أرضها داخل الأراضي المحتلة حتى المواجهة المباشرة مع الاحتلال عندما تعرَّض للاعتقال وهو لا يزال طفلاً في الرابعة عشرة من عمره، بينما تعرض للاعتقال بعد ذلك، وأًبعد إلى مرج الزهور وكان من أصغر المبعَدين الذين كانوا من أبرز قادة "حماس"؛ حيث كانت تجربةً ثريةً صقلت شخصيته، وجعلت منه هذا الرجل الجسور، رغم جسده الضئيل.
 
وكما لم يسلم من اعتقالات الاحتلال، لم ترحمه اختطافات وملاحقات صنيعتها سلطة أوسلو، فاختُطف في زنازينها عدة سنوات، وخضع لتعذيب وحشي، قبل أن يخرج ويواصل الحياة والتضحية والجهاد بهمة عالية وعزيمة لا تلين.

وبالرغم من هول التجارب التي مرً بها فإنه يؤكد أن تجربة الحرب كانت الأصعب والأشد من بينها، ولكنه مع ذلك ورغم أنه لا يزال يعاني من إصابات وآلام في العمود الفقري والقدم اليمنى والصدر والساقين والرأس، فإنه لا يخشى مجابهة الاحتلال من جديد.

ويؤكد أن "من مر بتجربة الحرب القادمة فإنه لن يخشى شيئًا بالعكس تمامًا فعهدنا عهد الشهداء؛ ألا نغفر وألا ننسى، قسمًا يورثه جيل لجيل".

________________

المصدر : المركز الفلسطيني للإعلام