25/12/2009

منذ نحو عام تلعثمت عدسات المصورين وهي تبكي أقداماً صغيـرة عشقت مشاوير المدرسة والتسابق مع صغار الدار قبل أن تنتزعها صواريخ الاحتلال.. غير أن صاحبة الاسم الذي يشبهها رسمت على وجهها ابتسامة رائعة وبصمودٍ أذهل كل من شـاهدها آنذاك قالت إنها وجميع أهل غـزة سيُعيدون بناء ما تحطّم، مؤكدة في شجاعة "أتمنى أن أصبح صحفية...".

الطفلة الفلسطينية صاحبة الـ15 ربيعا "جميـلة الهباش" اليـوم وبعـد عامٍ على ذكرى حربٍ إسرائيلية بشعة قصفت أحلامها، وبترت ساقيها، تتكئ على عكازين يحملانها كل صبـاح إلى مدرستها، وبعد أن تجلس على مقعد الدراسـة تبتسم بفخـر لهدفٍ يقترب من عالمهـا رويدا رويدا..

"ها أنا أسيـر حتى لو على عكازين.. وسأصل لحُلمي..".. هكذا تؤكد لـ"إسلام أون لاين.نت"، وقد أشرق وجهها بنور الأمل وابتسامة التفاؤل.

"كيف حـالك بعد عامٍٍ من الحـرب" أسالها بحذرٍ شديد وأنتقي حروفاً لا تجرح شعورها وتذكرها بمأساتها.. تأخذ نفساً عميقاً، وترد بثبات: "أنا في أفضل حال.. نعم فقدت ساقي، ولكن ها أنا أردد ما قلته لأول صحفي قابلني: سأصبح صحفية.. ولن أتخلى عن هذا الحـلم.. سأجتـهد في دراستي وأبتسم للحياة وأعيش تفاصيلها بشكلٍ طبيعي..".

ستكونين بخيـر

لا تُنكـر الصغيرة أن أمامها الكثير من التحدي وأن الطريق سيكون شاقًّا ليس لأنها تحتاج إلى أشقائها كل يوم ليساندوها في الذهاب إلى المدرسـة البعيدة عن بيتها أمتار معدودة فقط، بل لأن جميـلة لم تعتد بعد على أطراف صناعية تسكن جسدها.. تقول وذات الابتسامة تتألق على وجهها "بعد تركيبي الساقين شعرت بألم كبير.. وكلما حاولت السير اشتد الألم.. حتى هذه اللحـظة هناك وجع.. أتمنى أن يزول وأن أتخلص من العكازين وأمشي دونما أية مشاكل..".

تعـود جميـلة بذاكرتها إلى عصر يوم الأحد الرابع من يناير 2009 عندما كانت تلعب هي وأخواتها وأولاد عمها على سطح منـزلهم الواقع شرق مدينة غزة حين باغتتهم طائرات الموت بحممٍ وشظايا قتلت شقيقتها وابنة عمها بينما أصيب ابن عمها محمد وبترت قدمه اليسرى.

وبعد ساعات طويلة استيقظت جميلة في مستشفى الشفاء بغـزة دون أن تشعر بالحياة في قدميها تقـول: "لا أتذكر ما حدث.. حملني أبي وكان يهمس: ستكونين بخير وعلى ما يرام فلا تخافي.. لم أشعر بشيء حولي بعد القصف.. أتذكر أن ثمة دماء كانت في المكان وصراخ وأشلاء.. بعدما استيقظت وأنا على السرير في المستشفى أردت أن أرفع الغطاء كنت خائفة.. نظرت صوب أمي فوجدتها تبكي وفعلت مثـلها..".

أطراف صناعية

لم يكن سهـلا أبدا أن تنظر جميلة إلى ساقين غادرا مكانيهما إلى الأبـد.. تعترف بأن الله أنزل سكينةً وطمأنينةً عجيبةً في قلبها.

وبعد أن لفتت أنظار العالم إليها خلال المقابلة المباشرة التي أجرتها معها قناة الجزيرة الفضائية، وهي ترقد على سريرها في المستشفى خلال الحرب انهالت برقيات التضامن مع طفلة غـزة.

وفي 11-1-2009 كانت جميـلة في الرياض بدعوة من العاهل السعودي للعلاج على نفقته هي وابن عمها محمد، ومكثت هناك أكثـر من ستة أشهـر تنقلت فيها ما بين مستشفى وآخر في السعودية ركبوا لها خلالها ساقين اصطناعيتين، وركبوا لمحمد طرفاً.

وفي أواخر تمـوز/يوليو الماضي عادت جميلة لتلحق بركب العام الدراسي الذي كان قد انتهى، لكنه لم يُغلق أبوابه في وجهها ووجه كل من ذهب للعلاج في الخارج.

وانتقلت جميلة من المرحلة الإعدادية إلى الثانوية وهي تُزيح كل إرهاقٍ وتعب قد يداهم وجهها أو يغزو قلبها.

الأطراف التي ركبتها في السعودية شكّلت لها ألماً حادًّا لتسافر بعدها إلى سلوفينيا ومن جديد أعادت تركيب ساقين وبهما عادت إلى غزة منذ شهر.

اليـوم وبمساندة العكازين تتدرب يوميًّا جميلة على المشي.. وفي مراكز العلاج الطبيعي ولعدة سـاعات تبدأ في التعايش مع عالمها الجديد.

تخشـى الصغيرة أن يُواصل جسدها رفض الأطراف الصناعية وتستدرك بحزن حاولت جاهدة إخفاء حروفه: "لا أريد السفر للخارج مرة أخرى.. أشعر بألم ولكن أنا واثقة أنه سيختفي وسأستغني قريباً عن العكازين".

لن أبكي

وتضيف بثقـة: "كنت أحتاج لأكثر من ساعة لأجتاز أمتارا معدودة الآن أقطعها في دقائق.. لن أبكي، ولن أذرف الدموع على ما فات.. سأكون قوية وسأنجح.. لن أسمح للاحتلال الذي سرق أطرافي بأن يسرق حلمي".

وبإصرارٍ عجيب تتمنى أن تدور عجلة الأيام بسـرعة لتجد نفسـها صحفية، وقد أمسكت بالورقة والقـلم.. تُخبرنا أنها ستكتب كثيراً عن الطفولة، وعن وجع الصغار وستحكي للعالم قصـة عدو لا يعرف الإنسانية.

جميـلة أمسكت بكتابها واستأذنتنا للمغادرة إلى غرفتها، حيث تنتظرها اختبارات نهاية العام.. مشت واثقة الخُطى ولم تتردد في إهدائنا ذات الابتسامة التي تحولت لضحكة تُشبه صاحبتها.

والدتها التي كانت تنصت للمقابلة بدت حزينة للغاية وسمحت لدمعة كبيرة أن تنزل على خديها وهي تقول لـ"إسلام أون لاين.نت" بوجع الأم الثكلى: "الأمر ليس سهـلاً أبداً.. فقدت طفلة كانت ريحانة الدار وها أنا أنظر لشقيقتها وهي تعيش بلا ساقين..".

تبكـي الأم بحرقة وتترك العنان لدموع الذكريات بالسقوط وفجأة يعلو صوت والد جميـلة: "ما جرى اختبار، ولنا الجنـة جزاء صبرنا بإذن الله.. كفكفي دمعك وواصلي الدعاء..".

"أبو محمد" بدا كابنته قويًّا وصامداً وأعرب في حديثـه لـ"إسلام أون لاين.نت" عن اعتزازه بتماسك جميـلة وقـوتها، وأضاف: "قلت لها وسأبقى أردد: أنا ساقك اليُمنى وأمك ساقك الثانية.. لن نتركك أبداً..".

وبعد عامٍ من الحرب يسـأل والد جميـلة نفس الاستفهام الذي يُلقيه بوجـع مئات الآباء والأمهات المحروقة قلوبهم: "ما ذنب طفلتي؟ هل كانت تحمل صاروخاً يا إسرائيل؟!".

وكان نحو 417 طفلا قد فارقوا عالم الطفـولة في الحرب الشرسة والتي شنتها إسرائيل ما بين 27 ديسمبر 2008 و18 يناير 2009 في حين أصيب المئات منهم وبات أغلبـهم من أصحاب ذوي الاحتياجات الخاصة.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

المصدر : اسلام اون لاين