بقلم: الأستاذ عمر التلمساني المرشد العام الثالث لجماعة الإخوان المسلمين - رحمه الله
توطئة
إنَّ المتتبع لخطوات جماعة الإخوان المسلمين منذ نشأتهم سنة 1928م إلى اليوم، لا يستجلي منها إلا تضحيات متتالية في سبيل العقيدة، وجهود مكثفة منتجة في مختلف نواحي النشاط الاجتماعي في هذه الحياة، وتدعيمًا متواصلاً لربط الصلات الأخوية بين مختلف الشعوب الإسلامية وإشاعة للسلام بين دول العالم أجمع.
حورب الإخوان المسلمون حروبًا ضاريةً فتاكةً من مختلف الاتجاهات المحلية والعالمية، ورغم ذلك فلم يثبت في يوم من الأيام أنهم أشاعوا الفتنة، أو فرقوا الوحدة، أو دمروا المؤسسات، أو تظاهروا مخربين في الطرقات، أو هتفوا بسقوط فلان وحياة علان، بل كان سمتهم السلام وعملهم البناء ودينهم الوفاء، ورغم هذا كله فهم موضع النقمة، حتى من الذين لم يتفقوا على شيء إلا اتفاقهم على محاربة الإخوان المسلمين.
فهذه النيويورك تايمز وسيانس مونيتور والصحف الإنجليزية والفرنسية والشيوعية تستعدي الحكومات المصرية وغيرها عليهم، وكأن الإخوان يتدخلون في شئون تلك الدول بما يخيفها ويفزعها ويقلقها.
إنَّ تلك الصحافة لأنها توغر الصدور تستثير الأحقاد وترمي بالتهم المختلقة التي لا أساس لها من صحة ولا من وجود تحث على الفتك بالإخوان واجتثاث شأفتهم والقضاء عليهم، وتثير الخوف منهم، وهم أطهر من ماء السماء.
ولئن كانت جريمة جماعة الإخوان عند تلك الصحف أنها تقيم الفرد المسلم وتنشئ المجتمع المسلم، وتقوي الجيل المسلم، وتهدف إلى إيجاد الدولة المسلمة، ولئن كانت جريمة الإخوان عند تلك الصحف أنها تقضي على الاستعمار العسكري والاستغلال الاقتصادي والإفساد الخلقي، فهي مآخذ يعترف بها الإخوان؛
لأن عقيدتهم تأمرهم بالتحرر والحرية وتطالبهم بالاعتزاز والاستقلال الشامل من كلِّ نواحيه، وتلزمهم بالقوة التي تحفظ الأمن والسلام، وما أمرهم الله في كتابه الكريم بالقوة ليعبثوا أو يستعمروا أو يستغلوا غيرهم، ولكنه طالبهم بها ليكونوا مرهوبي الجانب، منيعي الجناب، ميئوس من الاعتداء عليهم، ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ (الأنفال: 60)، فما كانوا إذن يومًا بغاة ولا عادين؛ لأنهم فقهوا دينهم حقًّا ودانوا لربِّ العالمين.
لماذا الهجوم؟
إنَّ تلك الصحف لا تهاجم الإخوان حبًّا في غير الإخوان، أو جريًا وراء خير لهم، ولكنها تلعب بالنار التي تحرق العالم الإسلامي، وتقيمه في صراع داخلي بين أبنائه يشتغلون به بدلاً من اشتغالهم بما يرفع شأنه، ويعيده إلى مكانته الأولى قوةً وعزةً وسلامًا واعتدادًا.
إنَّ الشرق الإسلامي ما يزال يلعق جراحه، ويجتر مصائبه التي أنزلتها به دول تلك الصحافة، إنه في حاجه لأن يلم شعثه ويصفي خلافاته ويثبت أقدامه على أرضه، وقد بدأ يدرك ما يحاك له ويدبر للقضاء عليه وإبقائه على الحالة التي هو عليها، حتى تبقى لهم السيادة والسلطة والتوجيه والإمساك بزمام الأمور.
إنَّ العالم الإسلامي بأسره بدأ يفيق ويدرك، ولم يعد ذلك العالم الذي غط في نومته مئات السنين حتى سبقه قوم كان شوطهم وراء خطوه؛ إذ يمشي على مهل، لم تعد هذه الأساليب الخالية من الآدمية تنفع بعد اليوم، فالكلُّ يقظ والكل منتبه، وقد علَّمته المصائب التي كدسها فوق رأسه الاستعمار الغربي والشرقي، علَّمته أن يتجمع وأن يأتلف، «فالمَصائِبَ يَجمَعنَ المُصابينا».
إنَّ تلك الصحافة تريد قطع الطريق على الصحوة الإسلامية التي تحركت بعد كارثة 1967م، فقد فاتها القطار بعد أن أخطأها التقدير، إنه ليس بالهين على الحركة الإسلامية أن ترى قلة صهيونية لا تبلغ أصابع إحدى اليدين ملايين، تلطخ بالذل والعار هامات المئات من الملايين المسلمة في شتى أنحاء العالم في خزي هزيمة سنة 1967م المنكرة، لقد تنبه المسلمون لحالهم، وعزموا على التصدي لكلِّ من يحاول إعادتهم إلى ما كانوا عليه من مهانة، فقد كان الدرس قاسيًا، وكانت النتيجة مهينة.
إنَّ المسلمين سيمضون إلى غايتهم خفافًا وثقالاً، ولو اقتضاهم الأمر أن يفنوا عن بكرة أبيهم، فدينهم عندهم قبل حياتهم، وأرواحهم فداء لعقيدتهم، ولئن لم تقف هذه الحملات المغرضة عند حدٍّ، فإنها ستكون نارًا تحرق الأخضر واليابس، وستأتي على هذه المدنية الخليعة المتهافتة التي لم تجن منها الدنيا إلا التفكك العقيدي والانحلال الخلقي والهوى إلى أعمق دركات الفحش والرذيلة والتقتيل والحقد والكراهية والبغضاء والتفرقة بين الناس وكأنهم ليسوا أبناء رجل واحد هو آدم، وأم واحدة هي حواء.
صحافة مغرضة
إنَّ تلك الصحافة المغرضة ذات النوايا المعروفة للمسلمين وهي تعمل على الحيلولة بين المسلمين وبين العودة إلى سالف عزهم ومجدهم، ومنعهم من الحصول على كلِّ حقوقهم كاملة غير منقوصة كأصحاب عقيدة من حقهم عمار هذا الكون، كحق غيرهم من أصحاب العقائد أو أكثر، قد خاب فألها وساء تقديرها، وما عاد من الممكن أن يدخل العملاق إلى القمقم مرة أخرى، بعد أن أفاق من نومه لم ينمها قبله أحد.
لقد مرت بالمسلمين عامة والإخوان منهم خاصة كوارث قاصمة لو مرت بغيرهم لما بقي لهم على وجه الأرض ديار ولا نافخ نار، ولكن العالم كله شهد من الإخوان حيويةً هائلةً وجلدًا عظيمًا واحتمالاً رائعًا، إن ترك على الكل بصماته، فهو لم ينل من الإخوان قلامة ظفر.
إنَّ الإخوان المسلمون، مسلمون أيقنوا كل اليقين أن عقيدتهم دين ودولة ومصحف وسيف وشعب وقيادة وعزة وسيادة، فلهذا ولهذا وحده لم تنل منهم الويلات، بل كانوا يعودون عقب كل محنة أقوى عودًا وأشد صلابةً وأعشق تعلقًا بدعوتهم، سواء أكان لهم شكل قانوني أم حرموا منه لعلة أو لأخرى.
إنهم يقدرون وضعهم في أممهم كمواطنين يهمهم أمر أوطانهم المسلمة قبل أن تهمهم حياتهم وأشخاصهم.
إنهم لا يخربون ولا يدمرون ولا يتآمرون ولا يستوردون أفكارًا ولا ينتمون إلى غير أوطانهم، ولا يحرصون على غير مصالحها، لا يدبرون مؤامرات، ولا يسعون وراء انقلابات، فهم يؤمنون بأن شر ما يصيب المسلمين الاحتراب بينهم فيشغلهم ذلك عن القضية الكبرى.. قضية الإسلام نفسه.
إنهم يدعون إلى الإصلاح، ويحضون على الوئام، ويعملون للبناء حتى في أحلك الظلمات، عرف الناس ذلك عنهم أو لم يعرفوا وما فكروا يومًا أن يرضوا مخلوقًا أيًّا كان وضعه على حساب العقيدة، ولا يمالئون إنسانًا على حساب الحق، فهو وحده الوجهة والغاية والمقصد والسبيل، ﴿قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ﴾ (الأنعام:91).
الإخوان والحكم
إنَّ الإخوان لا يسعون لحكم، ولكنهم يعملون لتسود العقيدة.. إنهم يمدون أيديهم طاهرة عزيزة، في كرامة المسلم، وعزة المؤمن لكلِّ من يعمل لتحقيق هذا الغرض النبيل لا يألونه نصحًا، ولا يمنعونه تأييدًا، ولا يضنون عليه بكلمة ثناء، فالفضل لا يعرفه من الناس إلا ذووه.. الرجل صديق الرجل، والمخلص حبيب المخلص، والعامل سند العامل، وكان الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه.
إنهم الأتقياء الأنقياء الذين لا يعرفون إذا حضروا، ولا يفتقدون إذا غابوا، ذلك أنهم لا يحرصون على جاه، ولا يرنون إلى مظهر، ولا يسعون وراء سلطان، لا يعنيهم أن يعرفهم الناس، ولكن حسبهم أن الله يعرفهم ويطلع على سرائرهم.
أيتها الصحافة المتجنية
هل لك أن تقدمي دليلاً على صحة مزاعمك.. دليلاً واحدًا على جريمة واحدة ارتكبها الإخوان في حق وطنهم أو مواطنيهم.. إن الإخوان هم الذين قُتلوا وشُردوا وعُذبوا وصُودرت أموالهم وممتلكاتهم، فماذا فعلوا؟! لقد احتسبوا ذلك عند الله واعتبروه ضريبة الجهاد في سبيل الله.
إنهم إنْ خسروا شيئًا فقد خسروا عرضًا زائلاً، ولكن الوطن هو الذي خسر خسارةً جسيمةً تعد بالمئات من السنين تأخرًا وبالبلايين من الأموال وساعات العمل وضروب الإنتاج.
إننا نؤمن بأن الشرق الإسلامي لم يعد مستعدًا لتلقي ضربة جديدة في صمت وهوان فليرجع على أنفسهم أولئك الذين يفري كره الإسلام أكبادهم ويفتنها ارتياعًا لهذه اليقظة الإسلامية البادية المتطلعة الواعية، لن تنالوا من يقيننا ولا من جهودنا، لن تجدوا آذانًا صاغيةً، فقد تبيَّن المسلمون واعتبروا وادكروا بعد أمة، فهم لخبيئتكم متنبهون، ولتبييتكم محتاطون، أما نحن وأنتم فقد كفانا «جرير» وضعنا منكم يوم أن قال متهكمًا عن ثقة ويقين:
زَعَمَ الفَرَزدَقُ أَن سَيَقتُلُ مَربَعًا
أَبشِر بِطولِ سَلامَةٍ يا مَربَعُ
ولئن كنتم تفكرون وتخططون، فقد بطل التفكير وقد بطل التخطيط، أما القوي القادر الذي نعتز به ونركن إلى جنابه المنيع، فإنه يمضي ثم يمضي ولا راد لمشيئته، ﴿وَاللهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ﴾ (البروج: 20-22)، ﴿وَلِله عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ (الحج: 41).
المصدر
الدعوة، العدد (10)، السنة 26، غرة ربيع الثاني 1397هـ - مارس 1977م، ص(2، 3).