بقلم : د/ ياسر حمدى


لا يخفى على مَنْ يتابع الساحة العلميَّة والفكريَّة أن هناك أموراً كثيرة تحتاج إلى إصلاح وإلى إعادة نظر، فهناك مَنْ يتطرَّق إلى بحوثٍ قليلة الأهميَّة، وهناك مَنْ يضخِّم بعضَ الخلافاتِ الفرعيَّة، وهناك مَنْ يتوهَّم وجودَ الخلافِ الحقيقيِّ في خلافاتٍ لفظيَّةٍ وشكليَّة..


ـ فبعضُ الباحثين يبذل جهداً كبيراً في تأليف كتاب يرجِّحُ فيه قولاً على قول، وتكون المسألة من الخلافات الفرعية التي يسوغ فيها الاجتهاد والخلاف ـ سواء أكان الخلافُ الفرعيُّ في العقائد أم في الأحكام ـ..
وهو لن يستطيع بترجيحه واجتهاده أنْ يلغي الخلاف في المسألة، فلماذا لا يقتصر على ذكر أقوال العلماء في المسألة وما تبين له أنه هو الراجح، من غير تشنيع لمن يخالفه فيها، ومن غير أن يضخِّمَ الأمر ويجعله كأنه صراعٌ بين الحق والباطل..


فمثلُ هذه الأمورِ الخلافُ فيها هو خلافٌ بين راجح ومرجوح، وليس بين حق وباطل..
والإغراق في هذه المسائل الجزئية لا بدَّ أنْ يؤدي إلى الإهمال في القضايا الكبرى والأكثر أهمية منها..


ـ ممَّا يعين على الإنصاف: عدمُ الاقتصارِ على أخذ الكلام من الخصوم:
كثيرون ممن يتحدثون عن الفِرَق أو المذاهب أو الأشخاص يبتعدون عن الإنصاف؛ لأنهم يقعونَ ضحيةً لتشويه الخصوم لهم، ولا ينظرون نظرةً مستقلةً في كلام مَنْ يتحدثون عنهم..
ولو ابتعدَ هؤلاء الناقدون عن تقليد بعضهم لبعض، ونظروا في كلام مَنْ ينتقدونهم، وسمعوا الكلام منهم، ولم يقتصروا على السماع عنهم، لأدركوا كم كانوا بعيدين عن الحقيقة، التي كانوا يحسبون أنفسهم مدافعين عنها!


3ـ ومما يعين على الإنصاف: الجمعُ بين الدِّقَّةِ وسعة الاطلاع:
فالدِّقَّةُ وحدها لا تكفي مع قلة الاطلاع، وكثرة الاطلاع لا تجدي مع عدم الدقة، فلا بد من التوازن والجمع بين الأمرين: التدقيق في الكلام وسعة الاطلاع..
لأنَّ كثيراً ممن يفقد الموضوعية والاتزان، ينقصه إما الدقة أو سعة الاطلاع أو كلاهما.
وأساسُ العلم: الدقة، وعمقُ الفهم.


4ـ مَنْ يتكلم بعلم وإنصاف وأدب، تجد كلامه مقبولاً عند الكثير من أتباع المذاهب والاتجاهات، إلا مَنْ كان متعصباً منهم.
وبهذا تكثر الاستفادة من المنصف، خلافاً للمتعصب الذي يكون تأثيره غالباً داخل مذهبه أو جماعته فقط.
فضلاً عن الخصومات والمعارك والعداوات التي كان هو سبباً فيها بتعصُّبه وضيق نظره..


5ـ الانضباط بالعلم والاحتكام إلى الحجة والبرهان:
ما على مَنْ كان منضبطاً بالعقل والعلم، ومحتكماً إلى الحجة والبرهان، وبعيداً عن التعصب: أن يكون منضماً لأي جماعة أو منتسباً لأي مذهب، ما دام داخلاً في دائرة الإسلام..
فهو باحتكامه إلى العلم سيأخذ الحقَّ أنَّى وَجَدَه، وسيترك الخطأ متى عَرَفَه..
أما المتعصبُ والمتطرِّفُ، فانتسابُه لأيِّ مذهبٍ أو جماعةٍ سيجعله متبنِّياً ومدافعاً عن كلِّ ما عندهم من خطأ أو صواب..


6ـ عندما تَرُدُّ على الأفكار وليس على الأشخاص، تُبْعِدُ نفسَكَ عن أيِّ بغيٍ أو فجورٍ في الخصومة، ولا يستطيع أحد أنْ يتهمَك أنَّ دافعَك هو الغيرة والتحاسد..
ويكون كذلك الرَّدُّ شاملاً لكلِّ من يقول بذلك الكلام ولا يقتصر على واحد بعينه.
وكذلك إذا تراجع الآخر عن كلامه لا تذهب قيمة كلامك؛ لأنه ليس موجهاً إليه بالذات وإنما إلى الفكرة.


7ـ الإسلامُ دينُ اللهِ تعالى، فليس لإنسان أنْ يُحَكِّمَ هواه ومزاجَه في حديثه عن الدِّين أو بيانه لأحكامه، وأهواءُ الناسِ قد تميل نحو التشديد أو نحو التيسير.
فالأمرُ الذي جعله الله مكروهاً بإجماع العلماء، لا يجوز لأحدٍ أنْ يحرِّمَهُ احتياطاً للدِّين.
وكذلك الأمر الذي جعله الله ظنياً، لا يجوز لأحدٍ أنْ يدَّعي أنه قطعيٌّ لا يقبل الاختلاف.
وما جعله الشرعُ صغيرةً من الصغائر لا يجوز ادعاء أنه من الكبائر..
وهذا الكلام قد يبدو بدهياً عند التنظير، إلا أنَّ هناك مَنْ تضيق نفوسُهُم بسعة الدِّين، ويأبون إلا أنْ يحكِّموا أهواءهم وأمزجتهم، فلا تكون موازينُهم منضبطةً بشرع الله تعالى.
ـ مِنْ تعاليمِ الإسلام: الولاءُ والبراءُ، والمحبةُ في الله والبغضُ في الله،
فلماذا لا يعرف بعضهم إلا البراء والبغض في الله، ولا يوجد عندهم موضع للولاء والمحبة في الله..
ومِنْ منهج المحدِّثين: الجَرْحُ والتعديل، وليس الاقتصار على الجرح، مع التزامهم بشروط ذلك وآدابه.
فلماذا يقتصر البعض على الجَرْح ويتركون التعديل، ولا يلتزمون بأحكام ذلك وآدابه..
ـ كلما سمعوا نقداً تساءلوا:
ـ لماذا في هذا الوقت؟
ـ من وراء هذه الحملة؟
ـ لماذا يتوجه النقد إلينا وليس إلى غيرنا؟
والجواب:
ـ النقد ليس له وقت محدد.
ـ ينبغي أن يكون الاهتمام بالأفكار وليس بالأشخاص.
ـ للحرص على تطوُّرِكم وتقدُّمِكم.
فالنقدُ البنَّاء هو دليل المحبة والوفاء، وليس علامة على الكراهية والجفاء..