محمد السروجي
 
تمهيد
جاءت الانتخابات البرلمانية المصرية كإحدى الثمار الجديدة لثورة 25 يناير ، وهي تُعد أول اختبار حقيقي لثقل وشعبية الأحزاب السياسية المصرية وقدراتها التنظيمية والميدانية بعد عقود طويلة من الركود والجمود ، حين توفرت جملة من الضمانات عززت الثقة في أطراف العملية الانتخابية ما ترتب عليها جملة من الشواهد والنتائج والدلالات نتناولها هنا في عدة نقاط منها ، مقدمات ومكونات المشهد الانتخابي ثم النتائج والدلالات ثم النجاحات والإخفاقات وأخيراً بعض المتطلبات لاستكمال هذه الصورة الديمقراطية المصرية الجديدة

أولاً : مقدمات المشهد "الفرص المتاحة" وهي جملة من المحددات والضمانات ومنها:

** الإطار القانوني ...

حيث تم إزالة العوائق القانونية التي جمدت العمل الحزبي في العهد البائد ،  ما أوجد طفرة في عدد الأحزاب السياسية في فترة قصيرة ليصل إلى 47 حزبا، بحيث أصبح معدل إقامة الأحزاب هو حزبين كل أسبوع، وفق تقدير دراسة أصدرتها لجنة شئون الأحزاب في سبتمبر الماضي.

** النظام الانتخابي ... 

رغم الانتقادات الكثيرة للنظام الانتخابي،لكنه عزز من فرص الأحزاب ، حيث يقوم على تخصيص ثلثي المقاعد للقوائم الحزبية، مقابل ثلث المقاعد للنظام الفردي، بما يعني أن للأحزاب المختلفة فرصة أكبر للتمثيل السياسي في مقابل المستقلين، وأن هذا النظام يرجح تكوين برلمان بدون أغلبية مستقرة بما يفتح بابا أوسع لمشاركة أكثر من حزب في تشكيل حكومة ائتلافية.

** الحراك السياسي الثوري ...

وهو ما يمثل فرصة جديدة للأحزاب  لعرض البرامج التي تمثل القضايا العاجلة للمجتمع المصري من الاستقرار الأمني والنهوض المعيشي فضلاً عن الوحدة الوطنية واستحقاقات الثورة وحقوق الشهداء والجرحى
ومن ثم يمكن استغلال ثورة الآمال والتطلعات حزبياً، وترجمتها لنتائج انتخابية تعزز تمثيل مختلف الأحزاب.

** ضمانات التجربة ...

وقد توفرت بصورة غير مسبوقة متمثلة في الإرادة السياسية لإنجاح التجربة ونزاهتها وهذا هو العوار الأساسي للتجارب السابقة طوال العقود الماضية ، والإشراف القضائي الكامل والضبط الأمني الشامل فضلاً عن سيادة القانون بتطبيق كل الأحكام القضائية الصادرة قبل وخلال العملية الانتخابية.

ثانياً : مكونات المشهد "الأفكار والتنظيمات" :
** الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية ، في أقصى اليمين كان تحالف التيار السلفي "أحزاب النور والأصالة والفضيلة " بمواقفه الملتبسة من الممارسة الديمقراطية والمواطنة، ترشح على غالبية عن لم يكن كل المقاعد "القوائم والفردي" وفي  المقابل، كان تحالف حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، وقدرته على التعاطي بنضج كبير مع التيارات الليبرالية واليسارية ثم كان حزب الوسط ، وما اتسم به من وضوح في قبول مدنية الدولة والمواطنة، ورؤيته الحضارية المتكاملة التي تمزج بين الأصالة والمعاصرة.
** الأحزاب الليبرالية  ، يتصدرها حزب الوفد الذي نافس على غالبية المقاعد البرلمانية،  وحزب الجبهة الديمقراطية الذي ينافس بنحو 133 مرشحاً لانتخابات مجلسي الشعب والشورى، ومنها المصريين الأحرار كموازي ليبرالي لحزب الحرية والعدالة، وينافس من خلال الكتلة المصرية في أكثر من 46 دائرة، و30 دائرة في مجلس الشوري لكنه أعلن الانسحاب بدعوى كثرة التجاوزات في الانتخابات البرلمانية،هناك أيضاً حزب مصر الحرية الذي أسسه د- عمرو حمزاوي والذي ينافس بنحو18 مرشحاً فقط، بعد انسحابه أيضا من الكتلة المصرية.
** الأحزاب اليسارية ،تمثل عدة أحزاب من التيار الاشتراكي، منها حزب التجمع الذي ينافس من خلال الكتلة المصرية، بالإضافة لأحزاب يسارية جديدة مثل الحزب الشيوعي الذي عاد ليحتل مكان أقصي يسار الخريطة السياسية المصرية، وحزب الوفاق القومي
** الأحزاب الناصرية  ومنها الحزب الناصري، وحزب الكرامة المتحالف مع حزب الحرية والعدالة، والأحزاب العمالية التي يمثلها حزب العمال الديمقراطي، تواجد يعكس ضآلة وزنها السياسي رغم استخدام الخطاب الاشتراكي لاستقطاب دعم العمال والفلاحين، ولكن تحول دون ذلك نخبوية الخطاب اليساري، وافتقاد قوى اليسار لقيادات كاريزمية مقبولة لدي الشارع المصري، باستثناء حمدين الصباحي، رئيس حزب الكرامة
** أحزاب منطقة الوسط
وهي أحزاب تمثل شباب ثورة يناير، وأخرى تمثل فلول الحزب الوطني المنحل. ومنها ، حزب العدل الذي نافس على 150 مقعدا منفرداً، والحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي ويجمع بين منتمين للتيارين الليبرالي واليساري، ويخوض الانتخابات ضمن الكتلة المصرية، متحالفاً مع حزب المصريين الأحرار ،أما أحزاب فلول الوطني فمنها  حزب المواطن المصري وحزب مصر القومي بالإضافة لأحزاب أخرى تثور حولها شكوك قوية، خاصة أحزاب نهضة مصر، ومصر الحديثة، و مصر التنمية، وحزب البداية.

ثالثاً : النتائج والتداعيات
أفرزت الجولة الانتخابية عبر النتائج المعلنة عدة مؤشرات ترسم أول خريطة سياسية حقيقية في مصر ، خريطة تعتمد البيانات والإحصاءات ونسب التمثيل البرلماني والتواجد الشعبي والميداني ، لم تحمل الخريطة الجديدة سوى مفاجأة واحدة هي الحضور الواضح للتيار السلفي ، كما أنها أكدت الواقع العملي لكن بدقة أكثر وأرقام أوضح وهي كالتالي ، تقدم تحالف حزب الحرية والعدالة – الذراع السياسي للإخوان المسلمين  - بنسبة 48% ومن بعده بالترتيب تحالف حزب النور السلفي 25% ثم حزب الوفد 10% الكتلة المصرية9% ثم حزب الوسط والثورة مستمرة هذه النتائج الرقمية
 تؤكد عدة نقاط وملاحظات وتداعيات منها :
** استمرار قدرة الإخوان المسلمين على إدارة الحملات الانتخابية بكفاءة عالية على مستوى التخطيط والتنفيذ والمتابعة وبالتالي حصد المقاعد وهو نمط اتضح بقوة في انتخابات النقابات المهنية التي تمت قبل وخلال انتخابات مجلس الشعب "المعلمون – الأطباء – المهندسون – العلميون – البيطريون - .."
** ظهور التيار السلفي كقوة منافسة لجماعة الإخوان وبنسبة تمنح الخريطة السياسية والمشهد السياسي قدراً كبيراً من التوازن على خلاف ما يظن البعض الذي يضع التيار الإسلامي كله في سلة واحدة"من الملاحظ تفوق حزب النور في عدد من الأماكن الريفية لاعتبارات مجتمعية ودينية"
** استمرار أزمة الأحزاب الليبرالية والاشتراكية، رغم زوال القيود القانونية والسياسية التي اعترضت نشاطها،ما يؤكد أن ضعف تلك الأحزاب يرجع إلى إشكالات بنيوية وتنظيمية وفكرية وتاريخية تخصها هي أكثر ما تخص المناخ السياسي العام
** معقولية ما حققته الأحزاب الشبابية والائتلافات الثورية إذا ما قورن بظروف نشأتها وإمكاناتها وحداثة تجربتها وضعف تواجدها وقبولها الشعبي ، وهذا طبيعي ومتوقع إذ أن الإنجاز والشعبية تحتاج إلى وقت
** الإخفاق الواضح  للأحزاب القديمة الكارتونية التي اعتمدت سابقاً على النظام الحاكم والجهاز الأمني وكانت جزء عضوياً ووظيفياً منهما ثم انهارت بزوالهما ، وبالتالي هي بحاجة لإعادة توفيق للأوضاع في ظل المناخ الجديد الذي يعتمد العمل لا العمالة
** الحضور النسبي الطبيعي والمتوقع  لبقايا النظام السابق خاصة في صعيد مصر لاعتبارات عائلية وعصبية
دلالات أخرى
جملة الشواهد تؤكد ثبات واستقرار المزاج العام للناخب المصري بصفة عامة متمثلة في :
** ثبات المتوسط العام لنسبة المشاركة "60% في الجولة الأولى ، 40% في الإعادة"
** توازن الأداء العام لكل من حزب الحرية والعدالة والتيار السلفي مع تغير طفيف في بعض المحافظات لكنه غير مؤثر على المتوسط العام للنتائج
** عدم التوازن في الأداء والثقل الشعبي للكتلة المصرية التي تقدمت في المدن الكبرى خاصة القاهرة والإسكندرية وتراجعت في باقي محافظات مصر خاصة الريفية
** استعادة حزب الوفد لتوازنه النسبي في الجولة الثانية خاصة محافظات وسط الدلتا .

رابعاً : النجاحات والمكتسبات
** إتمام العملية الانتخابية ووصولها للمحطة الأخيرة في ظروف راهن الكثيرين على عدم إتمامها أو ربما تعطيلها بعد الانطلاق
** نجاح الانتخابات وبتقدير جيد جداً – رغم بعض المخالفات المتوقعة – و استعادة جزء كبير من الثقة في بعض مؤسسات الدولة المصرية العميقة مؤسسة القضاء بالإشراف على الانتخابات بكفاءة ونزاهة وحياد ، ومؤسسة الجيش بالضبط الأمني في ظل أجواء الانفلات
** اللياقة الذهنية والفكرية للشعب المصري والتي تحطمت عليها غالبية وسائل وأساليب التخويف والتشويه والتشكيك الذي حمل لواءه بعض الفضائيات والمواقع والصحف التابعة لبعض رجال الأعمال المحسوبين على النظام السابق
**  ارتفاع الوعي السياسي لغالبية المصريين بصورة غير مسبوقة كإفراز للسجالات الفكرية والحوارات المجتمعية والمناظرات البرنامجية التي ازدحمت بها الفضائيات والميادين وربما المقاهي
** حضور منظومة القيم الثورية الراقية "المشاركة – الإيجابية – تعزيز الثقة – القدرة على الإنجاز – الاختيار وفق معايير ..."
** تشكيل الخريطة السياسية المصرية لأول مرة وفق معايير ديمقراطية وأرقام دقيقة ، حيث أن المعيار الدولي الوحيد هو القدرة على التمثيل البرلماني
** الانكشاف الشعبي والسياسي وربما الأخلاقي للعديد من التيارات السياسية التي راهن بعضها على التاريخ فقط ثم اكتشف أن التاريخ وحده لا يكفي وراهن بعضها على شرائح محددة دون غيرها ثم اكتشف أن التركيبة المجتمعية قد تغيرت منذ زمن
** الانكشاف المهني والأخلاقي للعديد من وسائل الإعلام الخاص الذي انتقل من مربعات نقل المعلومات والحقائق إلى طرف منحاز بل ومعاد لبعض التيارات والأحزاب
** انهيار ثقافة الوصاية  ، باسم النخبة الفكرية أو القيادة العسكرية أو المؤسسات والكيانات الدينية
** تشكيل أول مؤسسة تشريعية بإرادة مصرية خالصة تمثل الشعب وتراقب الحكومة وتشرع لمصر الثورة لتكوين الدولة المصرية الديمقراطية المدنية المنشودة
** الاهتمام الإقليمي والعالمي بالتجربة المصرية غير المسبوقة ، ما يُعد لمرحلة جديدة من العلاقات الدولية تعتمد الندية والاحترام المتبادل فضلاً عن المصالح  وفقاً لثقافة الشعب المصري وهويته .

خامساً : الإخفاقات والسلبيات
** مناخ الاستقطاب السابق للعملية الانتخابية والذي جعلها من البداية أشبه بالمعارك المصيرية لا السجالات الديمقراطية ، وقع في هذا المربع كل مكونات المشهد السياسي دون استثناء خاصة التيار السلفي والتيار الليبرالي واليساري
** طبيعة النظام الانتخابي متمثلاً في :
-         سعة الدوائر التي أجهدت المرشحين وفتت الأصوات وأهدرت فرص النصف الأخير من كل القوائم -          نظام الفرز في اللجان العامة ما أوجد أجواء متكررة من الاحتكاك والفوضى
-         تضارب البيانات الصادرة من اللجنة العليا خاصة في الجولة الأولى
** الأخطاء الإدارية والطعون القضائية التي ألغت العديد من النتائج في بعض الدوائر ما يمثل عبئاً مضافاً على المرشحين والناخبين واللجنة العليا والقضاة
** الرقابة غير المهنية من منظمات المجتمع المدني التي التزمت الرؤية الانتقائية فركزت على السلبيات وتضخيم المخالفات خاصة المتعلقة بالصمت الانتخابي متجاوزة طبيعة المرحلة وحداثة التجربة وتراجع ثقافة الانتخاب ، وفي المقابل صدرت التقارير الدولية أكثر مهنية وموضوعية
** محاولة فرض الوصاية على المجلس المنتخب من بعض الثوار فضلاً عن الذين لم يحالفهم شرف التفويض الشعبي والتمثيل البرلماني وخرجت بعض التصريحات تتحدث عن الشرعية الثورية شرعية الميدان لا شرعية البرلمان .

سادساً : إنجازات مكملة
وهي للإجابة على جملة من التساؤلات المطروحة منها : وماذا بعد الانتخابات ؟! على المستوى السياسي والتشريعي والرقابي والخدمي ، على المستوى الإعلامي والسياسي والاجتماعي ؟ جملة من التساؤلات المطروحة والمشروعة
متطلبات المشهد
هناك جملة من الأمنيات منها :
** عقد عدة لقاءت بين كل أو غالبية القوى السياسية التي نالت شرف التفويض الشعبي والتمثيل البرلماني للتوافق حول تركيبة المجلس القادم ليكون شعاره"المصريون يد واحدة" يتم فيها اعتبار الاستحقاقات الانتخابية لكل القوى السياسية والكفاءات العلمية في تشكيل اللجان الداخلية للمجلس ، بعيداً عن فكر الانفراد والاستحواذ  "نمط وثقافة العهد البائد"
** التوافق حول الأجندة التشريعية ذات الأولوية والأجندة التصحيحية ذات الأولوية والمشروعات الخدمية القومية العاجلة التي تمس مباشرة حياة المصريين ومنها ، الاستقرار الأمني الفوري والنهوض المعيشي "الأجور والأسعار ، الخدمات الأساسية ، التعليم والصحة والبيئة .."
** إدارة حوار مثمر وبناء حول القضايا الشائكة والملتبسة والمختلف بشأنها في أمور الإبداع والفن والسياحة والحريات الشخصية ، نترك فيها جميعاً النهايات القصوى يميناً ويساراً على مدرج القياس الفكري ونتواصل جميعاً في المربعات الوسط ، مربعات التفاهم والتعايش والوحدة والنهضة
** وضع تصور واضح ومحدد بجدول زمني لتطهير مؤسسات الدولة المعطلة لمطالب الثورة وطموحات المصريين مع مراعاة الأبعاد الاجتماعية والأمنية
** وضع تصور محدد بجدول زمني لاستكمال رد المظالم  والحقوق لأهالي الشهداء والجرحى والمحالين للمحاكمات
** وضع تصور عملي وعاجل لوحدة الصف ولم الشمل والقبول المتبادل ووقف حملات التشويه والتشكيك والتضليل والإساءة للأفراد والهيئات والمؤسسات
** التواصل الفوري مع ائتلافات الثورة بكافة ألوانها وأطيافها وأعدادها لتمثل قوة دافعة مضافة ، وتكون الشرعية الثورية جنباً إلى جنب مع الشرعية الدستورية بعيداً عن التناقض و التنافر والتصادم
** ترتيب أولويات أجندة العلاقات الخارجية بما يحقق المصالح العليا للأمن القومي المصري وفقاً لهوى وهوية المصريين دون غيرهم ، لتصل الرسائل واضحة غير ملتبسة لكل من يهمه الأمر وبذلك نقطع الطريق أم محاولات البعض "الاصطياد في الماء العكر"
خاتمة
انتهت الجولة الرئيسة في التحول الديمقراطي بانتخاب البرلمان المصري ، نعم نجحت التجربة مع بعض الملاحظات المطلوب تفاديها في الانتخابات المقبلة ، ومن جديد تطرح التساؤلات المشروعة : هل يحقق البرلمان طموحات وأشواق المصريين؟! هذه هي المسألة.
--------
مدير مركز النهضة للتدريب والتنمية