د/ كامل محمد


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد


أمة الإسلام هي صاحبة الميراث لرسالة الرسل والأقصى الشريف “


لقد كانت محطة الإسراء النهائية إلى بيت المقدس،


وأول المعراج من بيت المقدس وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء جميعا إماما كي يؤسس على هذا التوافق بين الأديان السماوية، وتبعية الرسالات السماوية لرسالة واحدة هي رسالة الإسلام، وبخاصة ما جاء به سيدنا عيسى وموسى وغيرهم عليهم الصلاة والسلام، وصار المسجد الأقصى بهذا أولى القبلتين، وميراث المسلمين، وظل سيدنا عمر حافظا لدرس الإسراء والمعراج، وللعهد
بالصلاة ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهراً كما جاء في حديث البخاري بسنده عن البراء بن عازب حتى أرسل خالد بن الوليد وأبا عبيدة بن الجراح وفتحت فلسطين والشام وذهب بنفسه لاستلام مفاتيح القدس، ولم يذهب إلى بلد خارج الجزيرة غيرها، وأعطى من صور السماحة مع الأديان الأخرى ما بقى موضع ذكر من كل منصف، وعاش غير المسلمين في ظل حكم الإسلام يمارسون شعائرهم، وتحترم دور عبادتهم، ويشاركون المسلمين في إدارة البلاد، دون أية حساسية حتى جاء الصليبيون يحملون حقدا وغلا، وتحركهم أهواء سياسية وشائعات كاذبة أن المسلمين هدموا قبر المسيح وهي أكذوبة روجها البابا أوربان الثاني والساسة والقساوسة لتحريك الجموع العمياء عن الحقيقة، وقتلوا وسفكوا وهتكوا وخاضوا في الدماء، وأمعنوا في الخراب بحقد لا مثيل له، لكن صلاح الدين لما واجههم لظلمهم، وقاومهم لفسادهم، وقاتلهم لبغيهم قابلهم بسماحة الإسلام في التعامل مع الأسرى، وندع الأستاذة تغريد هونكه المؤرخة الألمانية تروى في كتابها: “الله ليس كذلك” (ص: 25) على لسان أحد الألمان الذين شاركوا في الحروب الصليبية وهو “أوليفروس” حيث كتب عن معاملة صلاح الدين لهم فقال:”منذ تقادم العهود، لم يسمع المرء بمثل هذا الترفق والجود، خاصة إزاء أسرى العدو اللدود، ولما شاء الله أن نكون أسراك، لم نعرفك مستبدا طاغية، ولا سيدا داهية، وإنما عرفناك أبا رحيما شملنا بالإحسان والطيبات، وعونا منقذا في كل النوائب والملمات.


ومن ذا الذي يمكن أن يشك لحظة في أن مثل هذا الجود والتسامح والرحمة من عند الله .. إن الرجال الذين قتلنا آباءهم وأبناءهم وبناتهم وإخوانهم وأخواتهم وأذقناهم من العذاب، لما غدونا أسراهم وكدنا نموت جوعا، راحوا يؤثروننا على أنفسهم على ما بهم من خصاصة، وأسدوا إلينا ما استطاعوا من إحسان، بينما كنا تحت رحمتهم لا حول لنا ولا سلطان”.


واليوم دنّس الصهاينة الأقصى أرض القدس وفلسطين، وشردوا خمسة ملايين فلسطيني، وقتلوا الأطفال والنساء والشيوخ، واقتلعوا أشجار الزيتون، وهدموا البيوت وعاثوا في القدس فسادا، ولا بد لكل مسلم أن يستشعر مسئوليته أمام الله تعالى عن رد البغاة، وطرد المعتدين، ولا سبيل لهذا إلا الجهاد المقدس لتحرير الأقصى الذي نتلو ذكره في آيات القرآن، ونعيش هموم الشعب الفلسطيني الذي يضحى كل عام بما يزيد عن ألف شهيد وأربعين ألف جريح، وهم عزل ماديا الأقوى روحيا، أمام طغمة من بني صهيون بدباباتهم ورشاشاتهم وطائراتهم وجرافاتهم لكنهم الأضعف قلبا، والأبعد عن الله تعالى وعن أي دين تلك مسئوليتنا أمام رب الأرض والسماء، وأمام التاريخ والأجيال، أمام القيم الإنسانية، والحق أن النصوص تؤكد أنه لا يمكن أن يتم ذلك إلا على أيدي المسلمين الصادقين ، الذين يبذلون كل غال ورخيص لحماية العرض، وتحرير الأرض من الغزاة المحتلين.


الإسراء والمعراج مثال لأحدث وأرقى صور السرعة في الاتصالات والمواصلات ”


في عصر الجمل سفينة الصحراء كانت رحلة الإسراء والمعراج في سرعة فائقة في الزمان والمكان، حتى عاد الحبيب صلى الله عليه وسلم منها دون أن يبرد فراشه كما روى البخاري بسنده عن أم هانئ رضي الله عنها في هذا العصر قطعت المسافة من المدينة إلى المسجد الأقصى في ثوان ، ومن الأقصى إلى السموات العلا في ثوان، وكانت العودة الحميدة، وإذاعة أنباء الرحلة في الصباح، ولم يكن أحد يصدق إلا من آمن بالمعجزة الإلهية، والوحي الرباني، والقدرة التي لا يحدها شيء، لكن أراد الله تعالى في هذا الزمن البدائي أن تكون معجزة النبي  أبد الدهر أسبق من كل تكنولوجيا الاتصالات والفضائيات، فسألوه عن صفات المسجد الأقصى وهم يعلمون أنه ما ذهب إليه في تاريخه قبل البعثة، فتجلى الأقصى مكانا وشمالا وجنوبا وشرقا وغربا في شاشة لا يراها إلا النبي  ، وبهت الجميع لهذا الوصف الدقيق.


أليس هذا درسا للذين ارتموا على أرجل الرجل الأبيض الذي أنشأ الفضائيات وطور الاتصالات، نحن يا قومي أصحاب سبق، لا تبهرنا الصور والأشكال، نحن ذوو عمق في النظر إلى الجوهر إلى الروح، إلى القيم والأخلاق سواء كان الإنسان يركب حمارا أو جملا أو صاروخا فضائيا، سواء كان فقيرا أو غنيا، هكذا المؤمن لا يبهر إلا بالحقائق وهي وحدها في مكنون القرآن وصحيح السنن، وصريح العقول الراشدة ، والحضارة المقترنة بالقيم الإنسانية ، والأخلاق الإسلامية .


ومن الضروري أن نراجع أنفسنا في تخلفنا عن السبق العلمي في المواصلات والاتصالات والفضائيات ، فحيث كان يجب أن نكون الأسبق في العالم لهذه الاختراعات العلمية من فيض الآيات والأحاديث النبوية، والوقائع التاريخية مثل الإسراء والمعراج ، بل ومساهمات الحضارة الإسلامية في عصور الازدهار ، لكنا تأخرنا ، فإذا توفرت إرادة إسلامية، وعزيمة إيمانية تستطيع أن نستوعب آخر الاكتشافات العلمية، وأن نضيف عليها إضافات جادة وفعلية، ونعطي للعالم مثالا جديدا على توافق الإسلام مع الحقائق العلمية التي تفيد كل الإنسانية .


هدية الإسراء والمعراج إلى الأمة الصلاة كمنهاج حياة ”


لقد دنا النبي صلى الله عليه وسلم من ربه واقترب، ورأى من آيات ربه الكبرى، وقد علم الله حب نبيه لأمته، فأراد ألا يحرم كل مؤمن ومؤمنة من إسراء ومعراج ففرضت الصلاة قبلتها الأولى إلى بيت المقدس حيث صلى بالأنبياء والرسل أجمعين ثم معراج الروح لكل مصليٍ إلى رب الأرض والسماء في كل سجدة، كما قال سبحانه: “واسجد و اقترب” ولما رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  ، أَنَّ رَسُولَ اللّهِ  قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ».{صحيح مسلم ، باب ما يقال في الركوع والسجود،(4/167) ، برقم 1035}


وصارت الصلاة منهاج حياة تصنع المسلمين في أحسن صياغة فيبادرون الطفل في أول لحظة من حياته بالأذان والإقامة ريثما يميز فيعلم الصلاة ثم يؤمر بها ثم يكلف بأدائها عند البلوغ وتبقى عبادة يومية خمس مرات، وعشرات المرات لمن تطوع، فهي أول ما يبدأ به يومه في صلاة الفجر المشهودة، وآخر ما يختم به يومه في صلاة الوتر المحبوبة، وبينهما صلوات بين الفرض والنافلة، فإذا حزبه أمر صلى، وإذا احتار في أمر صلى صلاة الاستخارة، وإذا أذنب صلى ركعتين تغسلان ذنبه وترفعان وزره، وإذا خسفت الشمس أو كسف القمر صلى، وإذا أجدبت السماء صلى، وإذا بشر بالخير سجد شكرا وذكراً لله تعالى، وإذا وافته المنية وقدم على ربه كان آخر عهده بالدنيا صلاة الجنازة، فهي منهج حياة من الميلاد إلى ما بعد الممات وهي النور في القبر والحشر، وأول ما يحاسب عنه العبد يوم القيامة وأول مفاتيح الجنة بعد رحمة الله عز وجل.


هكذا رحلة الإسراء والمعراج لم تكن نزهة بل معجزة، ولم تكن خاصة بالنبي  بل ترسم منهاج حياة لمن أراد النجاة، ووهب حياته كلها لدعوة الله .