بقلم : الدكتور  أحمد نصار
 

الطبقية في مصر قديمة قدم الفراعنة، منذ أن كان هناك حاكم فرعون حوله حاشية ثم كهنة له مزايا خاصة ثم كبار الموظفين في الدولة ثم عوام الناس والعبيد..

ولم تتخلص مصر عن الطبقية إلا في مراحل قصيرة بعيد الفتح الإسلامي في مصر حيث جاء الإسلام بمعاني لم يعرفها المصريون في تاريخهم مثل العدل والمساواة، فخرج المصري القبطي -والأقباط كانوا محرومين من اعتناق دين ومذهب معين ومهجرين في الصحراء خوفا من بطش الرومان - إلى الخليفة عمر بن الخطاب شاكيا من أن ولد عمرو بن العاص رضي الله عنه ضربه وقال له: أتسبقني وأنا ابن الأكرمين! فأنصفه الخليفة عمر وأعطاه حقه وجعله يقتص من ابن الأكرمين قائلا: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ ثم ضاعت قيم الإسلام السمحة مع الحكام الظالمين بعد ذلك!



هل في مصر طبقية؟؟

بكل تأكيد.. ولكن بدلا من أن يكون في المجتمع طبقة باشاوات تليها طبقة بكاوات ...إلخ كما كان قبل ثورة 1952، أصبحت الطبقية في مصر "خفيفة" غير معلنة و "غير رسمية" رغم تبدي صورها في كل مكان وكل مؤسسة وكل مصلحة وكل شارع في المجتمع!


والطبقية في مصر ليست معقدة كما كانت قديما، بل صار المصريون منذ أواخر عصر السادات تحديدا طبقتين اثنين فقط، بالضبط كما تصور هربرت جورج ويلز في روايته آلة الزمن (1895)، جنس فوق الأرض اسمه "الأيلو"، وجنس تحت الأرض اسمه "المورلوك"! ومن حين لآخر يختطف أحد المورلوك واحدا من الأيلو!

وكم كنت أرى هذه الرواية سخيفة لأول مرة قرأتها منذ حوالي 16 عاما، إلا أنني أستحضرها الآن بقوة، وأراها تصف الدقة في مصر الآن!


الآن في مصر: طبقة يمكن تسميتها "أصحاب الإشارات الخضراء". وأقصد بهم الذين حول السلطة؛ مرتباتهم خيالية، رصيدهم في البنوك بلا حدود، يتملكون الأراضي برخص التراب، يعين أولادهم في الوظائف التي يختارونها في الشرطة أو الإعلام أو الجامعة أو القضاء أو الجيش إلخ. وإذا مرضوا يعالجون في أرقى المستشفيات ويجدون الأدوية المستوردة بلا حدود. 

مقابل طبقة أخرى يمكن تسميتهم "المعذبون في الأرض" الذين يجدون كل الطرق مسدودة أمامهم، ويحيون بالكاد معيشة شبه آدمية، دون ضمان تأمين مستقبلهم أو مستقبل أولادهم. وفرصهم محدودة للغاية في المسارات السابق ذكرها، يكفي اعتناق رأي سياسي معين أو حتى التصريح به فقط لإنهاء مستقبله المهني تماما وطرده من الإعلام أو الجامعة ...إلخ. 


وإذا أراد أحد أفراد هذه الطبقة تخليص ورقة ما أو مصلحة ما فلابد له من الاستعانة بأحد أفراد طبقة "أصحاب الإشارات الخضراء". أما إذا مرض أحد أفراد هذه الطبقة فإنه يصبح أمام مشكلة عويصة لا يجد لها حلا! لن يجد أمامه إلا المستشفيات الحكومية التي يدخلها الإنسان صحيحا يخرج مريضا، وإذا أراد شراء كيس دم فإن ذلك يعني وقوفه طويلا في بنك الدم الذي سيعطيه غالبا ربع أو ثلث الكمية التي يحتاجها حتى يموت المريض! 


ويبقى حلم وأمل غالبية أفراد طبقة "المعذبون في الأرض" أن يفلتوا من براثن الواقع الأليم الذي يعيشون فيه ويلحقوا بركب الطبقة الأخرى أصحاب الإشارات الخضراء، ليضمنوا عيشة هنيئة مريحة إشاراتها خضراء دائما، وطرقا مفتوحة دائما، ينتصر في كل معاركه ويحل كل مشاكله، والإعلام يلعب دورا كبيرا في ذلك! 


كيف تتكون الطبقية؟

والطبقة المستفيدة من وجود هذه الطبقية – والذين ذكرهم القرآن بوصف "الملأ" – يجتمعون حول رأس السلطة الحاكمة في البلاد، يمجدونه ويسعون لإرضائه، لأنه الغطاء الذي يظل كل هذه الطبقة! يلتفون حوله مكونين "خراجا" أو "دملا" كبيرا في المجتمع.


وتوصيف الدمل أو الخراج ABSCESS هو التوصيف الأمثل والتشبيه الأدق لتكون طبقة الملأ "أصحاب الإشارات الخضراء" المستفيدة من وجود هذه الطبقية. ففكرة تكوين الخراج هي تجمع البكتيريا على مصدر غذاء غير محمي "زي المال السايب كده" وتكوين نقطة ارتكاز تجتمع عليها بقية الميكروبات حتى يحدث تجمع صديدي في داخل تجويف مسبب عن التهاب صديدي حاد بالأنسجة مع فسادها وتنخرها. لذلك تكثر الدمامل في مرضى السكر لأن دماءهم غنية بالسكر الذي لا يدخل بالكامل إلى الخلايا، والأمهات المرضعات اللواتي يتركن قطرات من اللبن دون مسحها عقب انتهاء عملية الرضاعة. "واللبن والدم من أغنى السوائل بالغذاء"

الدمل في مصر كبير.. وللأسف أصبحت كثير من أعضاء وأنسجة وخلايا المجتمع في مصر ترى في الحياة الصحية غير مجدية ويرغبون في الالتحاق بالخراج والخلايا الملوثة حيث الغذاء بلا حدود، وسط محاولة إضعاف متعمدة شاملة لكل أجهزة الوطن المناعية من دين أخلاق وتعليم وإعلام.. 

ازدادت الطبقية في مصر وزاد الاستقطاب السياسي على الاستقطاب المجتمعي حتى ذابت الطبقة الوسطى أو كادت.. وربنا يستر